عشية الفتح الإسلامي للشام والعراق ومصر (636 ـ 637 ميلادية) كان المسيحيون يؤلفون 95 في المئة من سكان هذه البلاد (9 ملايين في العراق و 4 ملايين في سوريا و 2.5 مليون في مصر). ودارت الأيام دوراتها فإذا بالمسيحيين يصبحوا في سنة 1904، أي في مطلع القرن العشرين، نـحو 25 في المئة من سكان الأردن وفلسطين ولبنان وسوريا. وبعد عشر سنين فقط، عشية الحرب العالمية الأولى، كانت نسبة المسيحيين في سوريا والعراق قرابة 20 في المئة من السكان، و80 في المئة في مصر.
ومنذ المجاعة الكبرى التي حلت بجبل لبنان وبعض أطراف سوريا خلال الحرب العالمية الأولى، بدأت أعداد المسيحيين تتناقص بالتدريج، حتى بلغت نسبتهم في سنة 1990 نـحو 10 في المئة. ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، أو قبل ذلك بقليل، بدأت نسبة التناقص هذه تتدحرج نزولاً بطريقة كارثية.
نشأت الحركة الوطنية الفلسطينية على أسس بينة وواضحة كان من أبرزها إلغاء وعد بلفور لما يتضمنه من ظلم وإجحاف بحقوق الأغلبية الساحقة من السكان، إيقاف الهجرة اليهودية، وقف بيع الأراضي لليهود، إقامة حكومة وطنية فلسطينية منتخبة عبر برلمان (مجلس تشريعي) يمثل الإرادة الحقيقية الحرة للسكان، الدخول في مفاوضات مع البريطانيين لعقد معاهدة تؤدي في النهاية إلى استقلال فلسطين.
وأقام الفلسطينيون مؤتمرهم الأول (المؤتمر العربي الفلسطيني 27 يناير-10 فبراير 1919) في القدس، الذي رفض تقسيم بلاد الشام وفق المصالح الاستعمارية، وعدَّ فلسطين جزءاً من سوريا (بلاد الشام)، وطالب باستقلال سوريا ضمن الوحدة العربية، وتشكيل حكومة وطنية تمارس الحكم في فلسطين، وقد عقد الفلسطينيون سبعة مؤتمرات من هذا النوع حتى عام 1928.
وبرز في قيادة الحركة الوطنية رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني موسى كاظم الحسيني الذي استمر في الزعامة الرسمية للحركة الوطنية حتى وفاته في مارس 1934. غير أنه من الناحية الفعلية برز اسم الحاج أمين الحسيني، الذي أصبح مفتي القدس سنة 1921، ورئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى منذ تأسيسه سنة 1922، والذي غدا أهم قلعة للحركة الوطنية والقوة الدافعة خلفها. وبوفاة موسى كاظم الحسيني أصبح الحاج أمين زعيم فلسطين دون منازع حتى نهاية الاستعمار البريطاني سنة 1948.
والمسيحيون الفلسطينيون هم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني وقدموا تضحيات جسام بجانب إخوانهم المسلمين، وبرزت منهم القيادات التاريخية التي شكلت معالم بارزة في مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة أمثال د. جورج حبش حكيم الثورة وضميرها، وديع حداد، كمال ناصر، ونايف حواتمة، وايميل غوري والاب ابراهيم عياد وبرز منهم مفكرين ومؤرخين واعلاميين أمثال ادوارد سعيد، وعزمي بشارة، وروز ماري سعيد، وشعراء وأدباء أمثال اميل حبيبي، ومن المسيحيين أعضاء في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وسفراء في دول كثيرة، ومنهم نواب في المجلس التشريعي الفلسطيني ووزراء في كافة الحكومات الفلسطينية المتعاقبة، والقافلة تطول .
وظهر نخبة من السياسيين المسيحيين الذين كان لهم اثر واضح وبالغ في مسيرة النضال الفلسطيني منهم عضو اللجنة التنفيذية حنان عشراوي، وعضو اللجنة التنفيذية حنا عميرة، والامين العام للهيئة الاسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات الدكتور حنا عيسى، ورئيس مجلس امناء جامعة بير زيت الدكتور حنا ناصر، وغبطة البطريرك ميشيل صباح.
والالاف من المسيحيين ذاقوا مرارة الاعتقال وقسوة السجان، واحتجزوا مع المعتقلين المسلمين في ظروف قاسية، وتعرضوا لما تعرض له باقي المعتقلين من معاملة لا إنسانية ولصنوف مختلفة من التعذيب والحرمان، وكانوا شركاء في الألم والصمود والنضال خلف القضبان، بينهم من اعتبروا قيادات ورموز للحركة الأسيرة، أمثال المطران كبوتشي، الياس جرايسة، وفا الصايغ، إلياس الجلدة، عطا الله أبو غطاس، وكريستيان بندك أحد محرري صفقة " وفاء الأحرار " والمبعد الى غزة، وغيرهم الكثيرين.
وقائمة شهداء الحركة الوطنية الأسيرة تضمنت أسماء مسيحيين ايضا وهو الأسير "خضر الترزي" من مدينة غزة والذي استشهد بتاريخ 9-2-1988بعد اعتقاله وتعرضه لتعذيب قاسي.
المسيحيون في القدس
تعتبر القدس رمز للتعايش بين الجميع، وهي إرث مشترك للمسلمين والمسيحيين معاً. فهي، للمسلمين، أولى القبلتين وثالث الحرمين. وهي، للمسيحيين، الانجيل الخامس. ففي أرجائها تنتصب كنيسة القيامة ودير مار يعقوب وكنيسة حبس المسيح والجسمانية ومئات الأديرة والكنائس العتيقة. وبين هذه وتلك يمتد درب الجلجلة الذي سار عليه المسيح وهو يحمل صليبه. وداخل سورها العابق بالتاريخ والعظمة تمتد أعناق المآذن نـحو السماء فتحرس قبة الصخرة والمسجد الأقصى وجامع عمر والرباط المنصوري ومهد عيسى. ومن باب العمود يخرج الزائر إلى دمشق الشام، أو يدخل إلى سوق العطارين، كأن بين الشام والقدس رباطاً مجدولاً بالمجد لا يتهلهل.
إن مسيحيي القدس، مثلهم مثل مسيحيي بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله وغيرها، يتعرضون لمحنة حقيقية هي الهجرة المتفاقمة التي تتجاوز بكثير معدلات الهجرة السائدة في المجتمع الفلسطيني. وعلى سبيل المثال، كان عدد المسيحيين في القدس، بحسب إحصاء 1922 نـحو 14700 نسمة، والمسلمون 13400 نسمة، بينما بلغوا في إحصاء 1/4/1945 نـحو 29350 نسمة، والمسلمون 30600 نسمة. وهبط عدد المسيحيين في القدس عام 1947 إلى 27 ألف نسمة بسبب الأوضاع الحربية التي نشأت في فلسطين عشية صدور قرار التقسيم في 29/11/1947. وهؤلاء كان يجب أن يصير عددهم مئة ألف، على الأقل، عام 2000. لكن عددهم الفعلي لم يتجاوز 10982 فردا في تلك السنة، وهم اليوم اقل من خمسة آلاف نسمة فقط. وفوق ذلك، فقد خسر 50 في المئة من مسيحيي القدس منازلهم في القدس الغربية عام 1948. ثم صادرت إسرائيل 30 في المئة من الأراضي التي يملكها مسيحيون بعد الاحتلال عام 1967. وجميع هذه العوامل تضافرت لتجعل من المسيحيين مجتمعاً متناقصاً باستمرار.
ارقام واحصائيات
الأرثوذكس والأرمن أقدم الجماعات المسيحية في فلسطين، بل أقدم سكان فلسطين قاطبة.
وكنائسهم الأخاذة هي الأعرق تاريخاً والأروع جمالاً والأكثر سحراً وإدهاشاً للبصر. وقد عاشت في فلسطين جماعات مسيحية متنوعة كالسريان والأقباط والموارنة والكاثوليك والانغليكان واللوثريين وحتى المورمون والمسيحيون العبرانيون. ظهرت أولى الكنائس الإنجيلية في القدس عام 1831 بعد احتلال ابراهيم باشا المصري لفلسطين. غير أن الكنيسة الأرثوذكسية ما برحت تعاني مشكلة خاصة ومتمادية منذ زمن طويل هي انشطارها بين رعية عربية خالصة العروبة ورأس غريب عنها في الأصل واللسان معاً. فقبل سنة 1534 كانت الكنيسة الأرثوذكسية عربية بالكامل من قمة الهرم الاكليركي حتى الراهب العادي. ولكن، في تلك السنة، صعد إلى السدة البطريركية كاهن يوناني شديد التعصب لليونان، مع أنه نشأ في فلسطين وعاش في ربوعها وبين أهلها المتسامحين، وتمكن هذا البطريرك الذي يدعى جرمانوس، خلال وجوده الطويل على رأس الكنيسة، من إقصاء رجال الدين العرب عن الوظائف الكنسية العليا وحصرها في أبناء جنسه اليونانيين. ولا يزال الأمر على هذا النـحو حتى اليوم على الرغم من الكفاح الدؤوب لتغيير هذا الواقع وإعادته إلى ما كان عليه. وقد فشلت جميع المحاولات الرامية إلى هذه الغاية منذ أن تمرد خليل السكاكيني على الكنيسة عام 1923 وحتى الآن. والمفارقة هي أن الكنيسة اللاتينية تعربت وتولى البطريرك ميشال صبّاح أمرها بكفاءة تليق بهذا الموقع، بينما الكنيسة الأرثوذكسية ما زال رأسها يخالف جسدها.
المسيحيون، إذاً هم سكان فلسطين الأصليون قبل الفتح العربي. غير أن عدد المسلمين راح يتزايد بالتدريج نتيجة للتدفق المتتالي للقبائل العربية على الديار المقدسة وبلاد الشام، إلى أن باتت غالبية السكان من المسلمين. واستطراداً فإن الخط البياني للمسيحيين في فلسطين كان هابطاً باستمرار، وهذا أمر طبيعي في شروط تلك الأيام، ولا سيما مع تحول الكثير من المسيحيين إلى الإسلام إما هرباً من الجزية، أو للاقتناع، أو لأسباب أخرى. لنلاحظ أن نسبة المسيحيين في فلسطين إلى مجموع السكان كانت، في سنة 1890، نـحو 13 في المئة. لكن، مع بداية الانتداب البريطاني في سنة 1917 هبطت إلى 9.6 في المئة. عام 1931 صارت 8.8 في المئة. وفي 1948 صارت نـحو 8 في المئة. أما في عام 2000 فقد بلغت نسبة المسيحيين في فلسطين قرابة 1.6 في المئة فقط، وهذه حال مروِّعة؛ فعددهم اليوم لا يتجاوز 160ألفاً، بينهم 114 ألفاً في »إسرائيل« و 40 الف في الضفة والف في قطاع غزة وخمسة الاف في القدس. وللمقارنة فقط، فقد كان عدد المسيحيين عام 1948 في الضفة الغربية وحدها 110 آلاف نسمة. ولو بقي هؤلاء في أراضيهم لبلغوا المليون نسمة عام 2002، لكنهم اليوم لا يتجاوزون الاربعين ألفاً فقط. وفوق ذلك، فقد كان عدد المسيحيين في القدس سنة 1947 نـحو 27 ألفاً، ولو ظلوا في ديارهم لكان عددهم بلغ في سنة 2002 أكثر من 150 ألفاً، بينما لا يتجاوز عددهم اليوم الخمسة آلاف.
بقلم/ د. حنا عيسى