في ذكرى رحيل ياسر عرفات "أبو عمار"

بقلم: نعمان فيصل

كان الرئيس الشهيد ياسر عرفات رجلاً يختصر قضية، وقضية تختصر رجلاً، فحياته خصبة حافلة صنعها بفكره وفعله وقلبه، وسخرها لنفع وطنه وأمته، وأعماله وفيرة لا تتسع الصحائف الكثيرة لاستقصائها، ولو مضينا نستقصي كل مجالات عطائه لما اتسع لنا المجال، ولكنني سأكتفي بتعريف موجز لأهم الأعمال التي تظهر جوانب التميز والفرادة في شخصيته الكاريزمية والبرغماتية، أذكر في هذا المقام ما قاله الرئيس الفرنسي جاك شيراك عندما جاء لوداعه وإلقاء النظرة الأخيرة عليه: (جئت لأنحني لياسر عرفات.. يقولون طويت صفحة من التاريخ، وأنا أقول: لقد طُوِي كتاب من التاريخ).
كان - رحمه الله - حاضراً وتاريخاً ومستقبلاً لفلسطين الشهيدة الذبيحة، فهو القائد العربي المكافح من أجل حرية أمته، ووحدة صفها وتضامنها وتقدمها، والنجم الأبرز في سماء قوى التحرر الوطني والاستقلال في العالم، ابن فلسطين ورمزها، وصانع حركتها الوطنية المعاصرة، ورائد كفاحها المسلح والسياسي.
اسمه "محمد ياسر" عبد الرؤوف داود عرفات القدوة، والمعروف اختصاراً (ياسر عرفات)، فهو غزي الآباء والأجداد، وقد توفي أبوه في خان يونس، ودفن بها كما ذكرت المصادر الشفوية قريبة العهد بالوفاة.. واسم (ياسر عرفات) ليس اسماً حركياً، لأنه كان ينادى به قبل إنشاء حركة فتح، حيث كان يقدم نفسه في انتخابات رابطة الطلاب الفلسطينيين في القاهرة باسم "ياسر عرفات"، وللجمع بين "محمد" و "ياسر" يرجح المؤرخ محمد شراب أن الاسم مركب من "محمد ياسر"، وجرت العادة في مثل هذا التركيب أن يبرز الاسم الثاني، ويضمر الأول، أما عن عائلته (عرفات القُدْوة): فعرفات فهو اسم علم للجد الذي استقر في فلسطين، وأما القدوة فهو لقب أو صفة مدح لأحد الأجداد، وكانوا قديماً عندما يترجمون للعالم أو الفقيه أو الصوفي يذكرون قبل الاسم ألقاباً وصفات، فيقولون العالم الزاهد، أو الفقيه القدوة، وقد اختار بعضهم أن يقف عند "القدوة"، ويجمع بعضهم بين اللقبين "عرفات القدوة".
ولد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مدينة القدس لؤلؤة فلسطين وتاج الكون، منبت الأديان ومولد الأنبياء ومسراهم وقبلة الكثرة الغالبة من الأمم، كان مولده عام 1929، درج في بيت جليل بعلمه ومكانته، فوالده عبد الرؤوف بن داود القدوة كان متولياً لوقف أجداده من عائلة الدمرداش، وأمه هي زهوة بنت سليم أبو السعود، من القدس أصلاً، وتلقى تعليمه في القاهرة بمصر العروبة، والتحق بالضباط الاحتياط للجيش المصري في الخمسينيات من القرن العشرين، وقاتل في صفوفه أيام النضال من أجل تأميم قناة السويس، وقاد الكتائب الطلابية الفلسطينية والعربية ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وأبلى بلاء حسناً، ومنحته قيادة ثورة 23 يوليو وسام المواطنة العربية.
تخرج مهندساً من (جامعة فؤاد الأول – القاهرة الآن)، وانخرط في شبابه في الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال الانضمام إلى اتحاد طلاب فلسطين في 1944، وتولى رئاسته لاحقاً (1952-1956)، وكانت تربطه علاقة وثيقة مع الحاج أمين الحسيني مفتي القدس. وفي الخمسينيات أسس مع إخوانه من المناضلين الفلسطينيين حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وأعلن ناطقاً رسمياً لها في 1968، ونجحت فتح بقيادته في جذب الأنظار إليها، والتف الناس حولها، وفي شباط 1969 انتخب رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبدأ يعرف على الساحة الدولية بزيه الزيتي وكوفيته الفلسطينية اللذين لم يتخل عنهما يوماً، وبفضل شخصيته القوية وحدسه تمكن من تعزيز سلطته السياسية، والنجاة من المؤامرات السياسية، وفي عام 1973 اختير قائداً عاماً لقوات الثورة الفلسطينية. وفي عام 1974 ألقى كلمة باسم الشعب الفلسطيني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
حصل على عدة أوسمة وجوائز للسلام؛ ففي عام 1979 حصل على وسام جوليت كوري الذهبي من مجلس السلم العالمي، وفي عام 1981 حصل على دكتوراة فخرية من الجامعة الإسلامية في حيدر أباد بالهند، كما حصل على دكتوراة من جامعة جوبا في السودان، وحصل في عام 1999 على دكتوراة فخرية من كلية ماسترخت للأعمال والإدارة في هولندا.
في عام 1982 قاد المعركة البطولية ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان ومعركة الصمود خلال حصار بيروت من قبل القوات الإسرائيلية، وضرب ورفاقه المقاتلون أروع آيات الصمود والتحدي في حصاره الذي استُهدف فيه شخصياً، وقال قولته المشهورة: (هبت روائح الجنة).
في نوفمبر 1984 ونيسان 1987 أعيد انتخابه رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من قبل الدورات 17 و 18 و 19 للمجلس الوطني الفلسطيني، وفي 15/11/1988 تلا إعلان الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة أمام المجلس الوطني المنعقد في الجزائر، وفي 13/12/1988 ألقى خطاباً في الجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف، والتي انتقلت لعقد جلستها في جنيف بسبب رفض الحكومة الأمريكية منح الرئيس ياسر عرفات تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية للذهاب إلى نيويورك من أجل إلقاء كلمته في الجمعية العامة في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وخاطبها في جنيف، كما خاطب مجلس الأمن في جنيف في شباط وأيار 1995 لنفس السبب.
في 13-14/12/1988 أطلق مبادرة السلام الفلسطينية لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط والتي فتحت، بناءً عليها، الحكومة الأمريكية برئاسة الرئيس رونالد ريغان حوارها مع منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وفي 30/3/1989 اختاره المجلس المركزي الفلسطيني رئيساً لدولة فلسطين، وقد اختير لهذا المنصب من قبل المجلس الوطني الفلسطيني مباشرة. وأطلق سياسة (سلام الشجعان) التي توجت بتوقيع اتفاقية إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل في البيت الأبيض يوم 13/9/1993، واختاره المجلس المركزي الفلسطيني يوم 12/10/1993 رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية، وفي 31/10/1993 اختير رئيساً للمجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار.
الرئيس عرفات شغل نائب رئيس حركة عدم الانحياز، ونائب رئيس دائم لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وفي تموز 1994 منح جائزة فليكس هونيت بوانيه للسلام، وفي أكتوبر 1994 منح جائزة نوبل للسلام، وفي نوفمبر1994 منح جائزة الأمير استورياس في أسبانيا، وفي العام 1996 انتخب رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية، وتزوج من سها الطويل، وأنجب منها ابنته (زهوة).
في كانون الأول/ ديسمبر 2001 ضربت إسرائيل حصاراً مشدداً عليه في مقر المقاطعة في رام الله لرفضه التنازل عن الثوابت الفلسطينية، ودفع ثمن إصراره على موقفه السياسي حصاراً دام ثلاثة أعوام في قلعته، وأعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش أن الرئيس الفلسطيني عرفات انتهى سياسياً متبنياً بذلك موقف رئيس الكيان الصهيوني أرئيل شارون آنذاك، وهددت إسرائيل بقتله مرات متتالية، بل واقتربت من جدار غرفته، وقد برهن عرفات قدرة غير عادية للخروج من أشد الأوضاع خطورة، لأن الجبل لا تهزه الرياح، وأعلنها مدوية ليسمعها القاصي والداني (شهيداً شهيداً شهيداً).
توفي رحمه الله صباح يوم الخميس 11/11/2004، في مستشفى بيرسي العسكري بفرنسا، وقيل في سبب الوفاة الكثير، ومما قيل إنه (توفي نتيجة احتسائه سماً)، ومازال أمر وفاته سراً من الأسرار؛ لم يكشف عنه بعد، وشيع في احتفال مهيب شارك فيه كل الفلسطينيين على اختلاف توجهاتهم حقيقة وليس مجازاً، وضجت الأرض لاستشهاده، وخلعت قلوب اليهود خوفاً ورعباً، واستنفروا جيشهم وشرطتهم لحراسة كل شبر في كيانهم، ووري الثرى في المقاطعة برام الله على مقربة من الأقصى، داعياً الجميع من أبناء شعبه أن يواصلوا العمل حتى تحقيق حلمه في فك أسرى (الأقصى) و(القيامة)، وجعل هذه الأرض ساحة سلام وأمان ورخاء واستقرار.
ولا أجد ما أختم به إلا قول الشاعر محمود درويش في رثاء عرفات: (كان ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا، وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة، إلى فكرة الدولة، إلى واقع تأسيسها المتعثر؛ لكن للأبطال التراجيديين قدراً يشاكسهم، ويتربص بخطواتهم الأخيرة نحو باب الوصول، ليحرمهم من الاحتفال بالنهاية السعيدة بعمر من الشقاء والتضحية، لأن الزارع في الحقول الوعرة لا يكون دائماً هو الحاصد).

بقلم/ نعمان فيصل