بجوار مبنى الحكومة في "10 داوننغ ستريت" بالعاصمة البريطانية "لندن"، توجد بضع سلالم تقودك إلى باطن الأرض، على جانبها تنتصب يافطة صغيرة بقامة لا تتجاوز المتر الواحد تحمل كلمتين كتبت باللغة الانجليزية "war room"، وعلى مقربة منها غرفة صغيرة تجلس فيها سيدة عجوز يبدو أنها أمضت الكثير من سنوات عمرها المديد بين جدرانها، حاولت أن استفسر منها عن ما تحتويه غرفة الحرب تلك، ابتسمت وهي تقول لن تندم على ثمن التذكرة إن كنت ترغب في رؤية مشهد من التاريخ، دفعت ثمن التذكرة "خمسة جنيهات" دون أن أطلب منها مزيداً من التوضيح ودون أن أكلف نفسي الرد على ابتسامتها، عادت بإبتسامتها من جديد وهي تقول يمكن لك استرداد قيمة التذكرة إن لم تجد في زيارة غرفة الحرب قيمة تذكر.
رحت أهبط السلالم بفضول المعرفة، ما أن انتهيت منها حتى تلقفني شاب بجهاز صغير على شاكلة الهواتف النقالة في بداية عهدها، الجهاز سيكون مرشدك السياحي في غرفة الحرب ولك أن تختار اللغة التي تحبذها بالضغط على الزر الخاص بها، لم تكن اللغة العربية واحدة منها، رحت أستمع إلى الجهاز الصغير وهو يرشدني باللغة الإنجليزية إلى المسار الذي علي أن أتخذه، لم تكن غرفة واحدة كما كنت أعتقد، بل مجموعة من الغرف والقاعات والردهات، إذا هي مقر قيادة الحكومة البريطانية ومركز العمليات أثناء الحرب العالمية الثانية، لم يتغير شيئ فيها سوى ما أدخلوه عليها من تماثيل من الشمع تحاكي بشكل دقيق من كان يتواجد بها، بدءاً من عاملة التحويلة، مروراً بجنرالات الحرب في قاعة تحتل حائطها خارطة كبيرة توضح انتشار القوات في القارة الأوروبية، بينما يعكف البعض من الجنرالات حول طاولة وضعت عليها خارطة أكثر دقة.
في قاعة أخرى محاطة بالزجاج احتلت أضلاعها الأربع طاولة يجلس عليها رئيس حكومة بريطانيا "ونستون تشرشل" ومعه أركان حكومته، ابقوا كل شيء على حاله حتى تلك الأوراق التي حملت الكثير من "خربشات" الوزراء في اجتماعهم الأخير قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزراها ظلت هي الأخرى على حالها، قبل أن تبتعد عن تلك القاعة يخبرك المرشد السياحي "الجهاز الصغير" أن عليك أن تضغط على رقم محدد إن كنت ترغب في الإستماع إلى المكالمة الهاتفية بين رئيس وزراء بريطانيا "تشرشل" والرئيس الأمريكي "روزفلت"، قيمة غرفة الحرب ليست في المكان وتقسيماته بل في الصورة والمقتنيات التي تنطق بالتاريخ.
عدت بالذاكرة إلى كل ذلك وأنا أقرأ خبراً مفاده أن حركة فتح ستتسلم بيت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والحقيقة أن الخبر قذف أمامي جملة من التساؤلات، ما الذي حدث في بيت الرئيس على مدار السنوات السابقة وما الذي بقي على حاله فيه؟، وهل "ابو عمار" ملكاً لحركة فتح أم لشعب يحتفظ الغالبية منه في ذاكرتهم بالكثير من المواقف لذلك القائد الذي اقتحم قلوبهم وسكن فيها؟، ألم يكن بإستطاعتنا أن نحافظ على ما فيه لأن كل منها ينطق ببعض التاريخ؟، ألم يكن من الأفضل لنا جميعاً أن يتحول بيت الرئيس "ابو عمار" لمتحف يروي حكاية حقبة مهمة من تاريخ شعبنا بدلاً من أن يتحول إلى مزار بجدران صامتة؟، ألم نبعثر نحن الكثير من أوراق تاريخنا بأيدينا؟، الأمر لا يتعلق فقط ببيت الرئيس، بل بالكثير من الوحات النضالية لشعبنا، لماذا لا نحتفظ بتراث تركه الشيخ أحمد ياسين في متحف بما في ذلك بقايا مقعده المتحرك؟ لماذا لا نحفظ ارث القادة الذي هو بمثابة تاريخ شعب أكثر منه تاريخ أشخاص؟، لماذا لم نبق على سجن غزة المركزي ليحكي للأجيال القادمة حكايات نضالية ضمتها أقبيته؟، كم نفقد من التاريخ عندما نبقيه اسير الذاكرة.
د. أسامه الفرا