ليس في تاريخ الشعب الفلسطيني تعداد لانتفاضاته، فهو يعيش انتفاضة متواصلة منذ إعلان وعد بلفور عن وطن قومي لليهود، والسعي الدؤوب للحركة الصهيونية الى إنجاز مشروعها في إقامة دولة إسرائيل. على امتداد قرن، قاوم الشعب الفلسطيني بلحمه الحي مشاريع التهجير والاستيطان الصهيونيين، وكان مدركاً أنه في مواجهة مشروع استعماري استيطاني يقوم على اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وهي حقيقة أدركتها كل الحركات الوطنية الفلسطينية ماضياً وحاضراً.
إذا كانت طبيعة الانتفاضات تتفاوت بين مرحلة وأخرى، مرة بالسلاح ومرة بالحجارة وأخرى بالسكاكين، إلا أن أهدافها واحدة، ألا وهي التصدي لمشروع إسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني. يدرك الفلسطينيون أن إسرائيل قامت على كذبة تاريخية ركبت عليها الحركة الصهيونية أيديولوجية تحكم قادتها حتى اليوم، وتقوم على مقولة رفض الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني على أرضه، مقابل الادعاء بأن أرض فلسطين هي أرض الميعاد التي وعد الله بها شعب إسرائيل. على رغم أن إسرائيل قدمت نفسها عند تأسيسها على أنها مشروع حداثة في المنطقة العربية، ونموذج للديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وهو ادعاء ساهمت في ترويجه الدول الغربية ومعها الاتحاد السوفياتي آنذاك، إلا أن الوقائع أظهرت كم أن هذا الكيان يحمل في مكوناته كل إرهاب الدولة والمجتمع الممارس على الشعب الفلسطيني. ومن الغريب أن إسرائيل تطلق على مقاومة الشعب الفلسطيني صفة الإرهاب، حتى ولو كانت هذه المقاومة بالحجارة، فيما تسلط على هذا الشعب أبشع أنواع العنف والتدمير والقهر، من دون تمييز بين مقاوم ومدني، أو بين كهل وشاب وطفل.
بعد أن بان زيف الترسانة الأيديولوجية الصهيونية في كون إسرائيل الدولة الديموقراطية وحاملة الحداثة الى المنطقة العربية، ها هو رئيس حكومتها يبتدع نظرية عجيبة مفادها أن الشعب الفلسطيني وقيادته هما المسؤولان عن المحرقة التي ارتكبتها النازية بحق اليهود في ألمانيا، وهي نظرية استحقت السخرية من مؤرخين إسرائيليين وغربيين. هذا الاتهام تراد منه تبرئة النازية والفاشية وقبلهما أنظمة أوروبية أخرى من تهمة اضطهاد اليهود.
إذا كانت انتفاضات الشعب الفلسطيني موجهة مباشرة ضد الحكم الصهيوني، إلا أن هذه الانتفاضات كانت ولا تزال في وجه أنظمة عربية سعت الى إنهاء القضية الفلسطينية وطمس طابعها القومي. فمنذ التآمر العربي في 1948 على القضية الفلسطينية وتسهيل قيام دولة إسرائيل، لم يكفّ بعض الأنظمة العربية عن السعي الى منع الهوية الوطنية الفلسطينية من التبلور تحت حجة القومية العربية التي لا تعترف بالقطريات. لعل النظام السوري البعثي كان الأكثر تعبيراً عن وجهة رفض القرار الوطني المستقل للشعب الفلسطيني. وقد مارس هذا النظام عملية ضرب وإفناء وتقسيم لمكونات هذا الشعب، وكان مع إسرائيل يشكلان أواني مستطرقة، بحيث يسلم كل واحد الراية التصفوية والقمع للآخر.
إذا كان بعض الأنظمة سلك مسلكاً «إسرائيلياً» مع الشعب الفلسطيني، فإن أنظمة أخرى مارست قمعاً غير مباشر عبر التخلي عن هذا الشعب، والامتناع عن تقديم يد العون له، بل الأسوأ أن هذه الدول كانت توافق على رصد المساعدات في اجتماعات الجامعة العربية، ثم تمتنع عن تسديد المستحقات عليها. بهذا المعنى كانت تمارس عملية إفقار وتجويع للشعب الفلسطيني، علّه بذلك يتخلّى عن نضاله، ولا يعود العرب محرجين أمام قضيته.
شكلت الانتفاضات العربية مرحلة سلبية في مسار الشعب الفلسطيني النضالي. أفادت إسرائيل من عدم الاهتمام العربي والعالمي بفلسطين، ورأى بعض العرب أنها الفرصة المناسبة لإجهاض هذه القضية المزعجة بالنسبة إليهم، فأمعنوا في حجب المساعدات في وقت كانت إسرائيل ممعنة في تدمير البشر والحجر.
وما زاد في الطين بلة، دخول إيران على خط استغلال القضية الفلسطينية، فمارست دوراً تخريبياً تجلى في شق المقاومة وتطييفها ومذهبتها، نازعة عن هذه القضية طابعها القومي العربي. وهي لا تزال حتى الآن تمارس دوراً في منع قيام الوحدة الفلسطينية. هكذا تقاطعت الأهداف الصهيوينة مع الادعاءات القومية العربية، مضافاً إليها المشروع الإيراني المذهبي، في العمل على طمس القضية الفلسطينية بصفتها حق تقرير المصير لشعب تمتد جذوره في أعماق التاريخ.
لأن القضية الفلسطينية قضية قومية عربية بامتياز، ولأنها قضية شعب له الحق في قيام دولته، ولأن طبيعة الصهيوينة لا تتيح مجالاً لتسوية تعطي الفلسطينيين الحدً الأدنى من حقوقهم، فإن الشعب الفلسطيني ليس أمامه سوى المقاومة في شتى الأشكال. ومن يراهن على تعب هذا الشعب ويأسه، سيكتشف أنه يراهن على فراغ.
خالد غزال
* كاتب لبناني