لقد وصلت منظومة العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، إلى مأزق كبير، فاتفاقات "أوسلو" انهارت بأغلبيتها العظمى، ولا وجود لمفاوضات حالياً يمكنها أن تؤدي إلى اتفاقات جديدة، تعطي الأمل للفلسطينيين بالتخلص من الاحتلال، ومن المعروف بأن الحروب والعنف لا تستمر إلى الأبد، بل تنتقل إلى العمل السياسي، والتسويات السلمية، فإن قوى الأمن الإسرائيلية -الجيش والشرطة وحرس الحدود، المخابرات- لا تستطيع مكافحة مقاومة شعب، وأن ما تطلق عليه إسرائيل بالإرهاب، سيتواصل ويتضاعف دون الانتقال لعملية سياسية جدية، غير أن حكومة "نتنياهو"-التي لا تؤمن بالسلام- تمتنع عن القيام بمبادرة سياسية جديدة، وأن الوضع في الأراضي المحتلة قد يتحول إلى انتفاضة ثالثة شاملة تخشاها ولا تريدها إسرائيل، فالعنف الذي تمارسه إسرائيل، قد يرتد عليها وعلى المجتمع الإسرائيلي.
في أعقاب التفاهمات التي تمت حول الحفاظ على الوضع القائم في المسجد الأقصى، مع أننا نشك أن هذه التفاهمات حتى وإن تجسدت، ستدوم طويلاً، فإن "نتنياهو" فتح جبهة جديدة مع الفلسطينيين، لأنه لا يستطيع البقاء على كرسي الحكم، دون العنف والتوتر، وهو-حسب جريدة يديعوت احرونوت 29-10-2015- وعد أبناء جلدته، بحرب أبدية ضد المقاومة الفلسطينية، فإن الحياة الطبيعية واحتمالات السلام صفر، فالموت والمزيد من الموت، يفرضه "نتنياهو" على الإسرائيليين، وعلى أبنائهم وأحفادهم، فـ "نتنياهو" أعلن عن خطته، لإلغاء إقامة وسحب هويات عن (100) ألف مواطن مقدسي، وإذا تم تنفيذ هذه الخطة، فإن ذلك يعني تحقيق الحلم اليهودي وهو: قدس موحدة دون فلسطينيين، أي ضمها إلى إسرائيل دون سكان عرب، فهل يعقل أن يتم بجرة قلم شطب إقامة (100) ألف مقدسي، يقيمون خلف الجدار الذي أقاموه حول القدس تحت مزاعم أمنية؟ وقد جرى طرح هذا الموضوع في اجتماع المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية بتاريخ "26-10-2015" فـ "نتنياهو" في طرحه هذا، قال أنه لا يمكن الاستمرار في الوضع الراهن القائم مع الأحياء الفلسطينية خلف الجدار، طارحاً سحب الهويات الزرقاء من المقيمين في أحياء فلسطينية، عزلها الجدار عن مركز المدينة مثل: مخيم شعفاط، رأس خميس، سميراميس، كفر عقب، وقلنديا والسواحرة، وهذه الأحياء جزء لا يتجزأ من مدينة القدس، ويدفع سكانها الضرائب بما فيها ضريبة المسقفات "الأرنونا" رغم أن البلدية لا تقدم الخدمات لهؤلاء السكان، وكان الأجدر بـ "نتنياهو" إعادة هذه الأحياء للسلطة الفلسطينية، طالما أنه يريد التخلص من سكانها.
منذ احتلال القدس عام 1967، وإسرائيل تعمل على سحب بطاقات هويات المواطنين المقدسيين، لتقليص عدد المواطنين العرب إلى 12% فقط، ووفقاً للإحصاءات الرسمية، فقد سحب الاحتلال بطاقات هويات (15) ألف عائلة من المواطنين المقدسيين، بين أعوام 1967 حتى 2013، ولا يوجد لدينا عدد الهويات التي سحبت بعد هذا التاريخ، وحتى اليوم، وأن ما يربك الحسابات الديمغرافية الإسرائيلية، أنه رغم هذه السياسة العنصرية، فإن أعداد فلسطينيي القدس في تزايد، إذ يبلغ حالياً (320) ألف مواطن، فسحب هويات المقدسيين، يتعارض مع تعهدات إسرائيل أمام المحكمة الدولية، حتى أن جمعية حقوق المواطن الإسرائيلية، اعتبرت أن خطة "نتنياهو" لسحب الهويات، يتناقض مع تعهدات إسرائيل قبل (11) عاماً، أمام المحكمة الدولية، بالحفاظ على النسيج الاجتماعي للمقدسيين، وأن خطة سحب الهويات تتناقض مع جميع القوانين الدولية، وأن سحب هويات (100) ألف مقدسي، هي المرحلة الأولى لتغيير الوضع الديمغرافي في القدس، من خلال إقامة جدار العزل، الذي يبلغ طوله (46) كيلومتر، لفصل معظم الأحياء العربية عن مركز المدينة، فإسرائيل التي لا تحترم تعهداتها، كانت قد تعهدت أيضاً أمام المحكمة الإسرائيلية العليا في القدس، أثناء مقاضاتها من قبل المعنيين بالأمر، باستمرار حياة المقدسيين الذين بقوا وراء الجدار، والحفاظ على الحياة المشتركة لمجمل الفلسطينيين، عبر جهتي الجدار، فحين أقام الاحتلال الجدار، كان عدد سكان القدس العرب (220) ألف نسمة، بينما يبلغ عددهم اليوم (320) ألف، بينهم نحو (30) ألفاً يحملون الجنسية الإسرائيلية، وهؤلاء قسم منهم من فلسطينيي الـ 1948، أو من أحياء جرى احتلالها منذ عام 1948، مثل أحد أحياء شطري قرية بيت صفافا التي أصبحت حياً من أحياء القدس، والاستنتاج بأن الخطر بات يهدد نحو 66% من المقدسيين المتبقين ومن مبررات هذا الإجراء، زعم "نتنياهو" أن قراره نابع من أن هؤلاء المقدسيين يتلقون حقوقاً، دون أن يسددوا التزاماتهم، فهذا التطهير العرقي المخالف لكل القوانين، ولتعهدات إسرائيل أمام المحكمة الإسرائيلية العليا، بحرمان المقدسيين من جميع الحقوق والخدمات الأساسية، فسكان القدس متجذرون فيها منذ قرون، والاحتلال الإسرائيلي هو الذي حولهم-دون وجه حق- إلى مقيمين، بينما هو الغريب والدخيل سيطر على المدينة، بقوة السلاح، وحرمهم من ممارسة حقوقهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، فسلطات الاحتلال قامت بمصادرة أراضيهم، وهدم المنازل، وعدم إصدار رخص البناء لهم إلا في حالات نادرة، حتى أن قانون القدس الإسرائيلي لا يسمح بسحب الهويات، أو سحب الحقوق من سكان المدينة قضائياً.
حركة حقوق المواطن الإسرائيلية، توجهت منذ منتصف شهر آب الماضي، برسالة إلى "نتنياهو"، مستعرضة حالة الأحياء المقدسية خلف الجدار، وحملت الحكومة الإسرائيلية، مسؤولية تردي الأوضاع التي آلت إليها الأحياء المقدسية، مطالبة بتنفيذ الوعود والالتزامات التي قطعتها الحكومة على نفسها بالنسبة للمقدسيين، من جهة أخرى اعتبر اليمين الإسرائيلي، أن خطة "نتنياهو" ستؤدي إلى إعادة تقسيم القدس التي تعارضها، واعتبر المستوطنون توجهات "نتنياهو" أنها المرة الأولى منذ عام 1967، يريد إعادة تقسيم القدس، وليست مجرد إجراءات أمنية، وحرمان هؤلاء المقدسيين من الخدمات الصحية، ومن مخصصات الضمان الاجتماعي، من جهتها، فقد أعربت الإدارة الأميركية، عن معارضتها لتوجهات "نتنياهو"، بسحب الهويات أو إقامات فلسطينيين من القدس الشرقية، معربة عن معارضتها لمشروع "نتنياهو" بسحب هويات عشرات آلاف المقدسيين.
الحكومة الإسرائيلية-التي لا تريد مفاوضات جدية-تقود إلى التسوية، فإن "نتنياهو" يصر على اتهام الرئيس الفلسطيني "أبو مازن" بالتحريض، للدفاع عن نفسه أمام حملة الانتقادات الكثيرة التي يطلقها الإسرائيليون ضده، وما اتهامه لـ "أبو مازن" بأنه المسؤول عن التحريض الذي أفضى إلى التصعيد الأمني الحالي، واتهاماته للسلطة الفلسطينية بالتحريض الذي أدى إلى موجة التوتر والتصعيد الحالية، لكن المحلل للإذاعة الإسرائيلية في تعليقه على تصريحات "نتنياهو" بتاريخ "4-11-2015" ، ذكره في عمليات التحريض الإسرائيلية التي سبقت وأفضت إلى اغتيال، رئيس الحكومة السابق "اسحاق رابين"، ونذكره بالشرفة في ميدان صهيون في القدس، التي كان عليها قيادات إسرائيلية بينهم "نتنياهو" وجماهير إسرائيلية متحمسة تستمع إلى أقوالهم وتصرخ: رابين خائن، وعرضوا صورته بلباس هتلر وأخرى بكوفية أبو عمار، ومقابل اتهام "أبو مازن" أنه متورط بالتحريض، وأنه لا يمر يوم دون تشجيعه للعمليات، فإن "نتنياهو" لا يعلق على اتهامات دوائر الأمن الإسرائيلية، "الإذاعة الإسرائيلية 27-10-2015"، باتهام الوزيرة "ميري ريغف" بالتحريض، ويحملونها المسؤولية عن تفجير الأوضاع في القدس، اعتبرت الجهات الأمنية تصريحات الوزيرة المتكررة، فيما يتعلق السماح لليهود، بتأدية الصلاة والشعائر الدينية-التلمودية في باحات الأقصى كانت السبب الرئيسي لإثارة الفلسطينيين وتوجههم للانتقام والرد بعمليات الطعن، وعقدت أكثر من (15) جلسة في لجنة الداخلية في الكنيست، لبحث قضية صلاة اليهود في الأقصى، وأن من أبرز تصريحاتها، أن الفلسطينيين يهددوننا بانتفاضة ثالثة، فلتكن انتفاضة كهذه لنلقن الفلسطينيين درساً، وليعلموا كيف ستؤثر عليهم انتفاضة كهذه.
"نتنياهو" بين أنه غير قدر أو لا يريد، فهو يعلم أنه دون مسيرة سياسية حقيقية فإن الصراع سيبقى على حاله، بل وقد يزيد تدهوراً، وكما كتبت الصحفية "عميره هاس"، في جريدة "هآرتس 2-11-2015"، فإن المتظاهرين الفلسطينيين ينتصرون على الجيش الإسرائيلي، وعلى حرس الحدود، بجرأتهم وشجاعتهم، وهم مسلحون بالكوفية والحجارة وزجاجات المولوتوف، مقابل الجنود الإسرائيليين المسلحين والمدربين عسكرياً، وبآلياتهم المصفحة والطائرات دون طيار، ويعتمرون الخوذ الفولاذية وبالسلاح الحي القاتل، والغاز المسيل للدموع، ليتضح أن الشبان الفلسطينيين بالحجر أقوى من الجنود الإسرائيليين بالسلاح، من هنا فإن "نتنياهو" يدعو الإسرائيليين إلى الصبر وطول النفس، زاعماً أن إسرائيل ستتغلب في النهاية على عمليات الطعن، متهماً الدول العربية المجاورة بأنها تشهد موجة من التطرف الإسلامي، وأن هذا التطرف أخذ يتغلغل داخل البلاد، متجاهلاً سياسة الاحتلال التي تدفع الشباب لمقاومة الاحتلال، دون حاجة للتحريض من أحد، فالاحتلال وممارساته هي الدافع للمقاومة، حتى أن الوزير "نفتالي بينت"، الذي قام بزيارة مدينة الخليل، والصلاة بالحرم الإبراهيمي، معلناً أن زيارته هذه لشحن جهود الاستيطان، وحق اليهود في الخليل، ودعم الوجود اليهودي فيها، وأن زيارته للخليل تأكيداً على يهوديتها، فهل هناك أكبر من هذا الاستفزاز والتحريض؟
وأخيراً .. مع التقارير الواردة من واشنطن، أن ما يسمى بحل الدولتين لن يتحقق في عهد الرئيس "باراك أوباما"، حسب ما وعد به، بل يدعو إلى التهدئة والحلول الجزئية، حتى أن الحلول الجزئية من غير الممكن أن تتحقق، إلا إذا تخلى "نتنياهو" عن تركيبة ائتلافه الحالية، بائتلاف أكثر اعتدالاً، يبنى على أساس خطوط سياسية جديدة، تقبل من قبل الجانب الفلسطيني، لكن الوضع الراهن، وتخلي الإدارة الأميركية عن وعودها، لن تؤدي إلى التهدئة، بل ستزيد من عمليات المقاومة ضد الاحتلال وتصعدها.
مقال تحليلي
بقلم: غازي السعدي
التاريخ : 10/11/2015