"تحية طيبة وبعد"، هذا ما كتبته الشهيدة رشا العويصي، في مقدمة رسالة الوداع التي تركتها لأمها وأبيها وإخوتها وخطيبها، ولكل من عشق فلسطين.
"تحية طيبة وبعد" هذه الجملة الصحيحة الانتماء لا يبدأ فيها رسالته إنسان مضطرب أو خائف أو جبان أو منفعل أو جاهل أو غافل، هذه الجملة تنم على أن الفتاة رشا العويصي كتبت رسالتها وهي في كامل وعيها وعقلها واتزانها وإدراكها وصدقها، وهي تعرف ماذا ستفعل، وتعرف نتائج فعلها، ومع ذلك فهي عاقدة العزم على الفعل دون تردد، لتكمل رسالتها، وهي تقول:
أمي الغالية، لا أعرف ماذا يحدث لي؟ فقط أعرف أن طريقي قد انتهى، وهذا الطريق اخترته بكامل وعيي، دفاعاً عن وطني، وشبابه وبناته!!
أي لغة وطنية هذه التي كتبت فيها رشا العويصي رسالتها؟ وأي بيان ثوري هذا؟ وأي بيان حكومة يمكنه أن يضاهي بيان الدم هذا؟ وأي انتماء وطني هذا الذي يدفع فتاة صغيرة مقبلة على الدنيا لأن تختار نهاية الطريق على الأرض، لتشق طريقها عروساً في السماء؟
تختصر رشا العويصي كل القضية الفلسطينية، وكل الاجتماعات التنظيمية، وتختصر كل اللقاءات والمفاوضات والنظريات السياسية، بجملة واحدة تقول فيها رشا العويصي: لم أعد أحتمل ما أرى!!
لم أعد أحتمل ما أرى، لم أعد أحتمل طعنات الأعداء المصوبة إلى رؤوس أبناء شعبي، لم أعد احتمل رؤية المستوطنين يغتصبون الأرض، ويسيطرون على المقدرات، ويدنسون المقدسات، لم أعد أحتمل رؤية المنسقين أمنياً، وهم يلتقون مع عدونا، ليدلوا بعد ذلك بتصريحاتهم النارية عن الوطنية، لم أعد أحتمل رؤية بنادق رجال الأمن الفلسطينية تطلق النار في جنازة الشهداء، الذين لم يجدوا غير السكين للانقضاض على الأعداء، لم أعد أحتمل رؤية الصمت الذي يلف القيادة بسلاسل من خوف، فأطبقت فمها دون الإعلان عن دعم للانتفاضة بكل أشكالها، لم أعد أحتمل رؤية الانقسام الحاصل في الساحة الفلسطينية، لم أعد أحتمل بقاء هذا الحال المزري والمخزي والمهين للإنسان الفلسطيني اللاجئ فوق أرضه.
وتضيف الشهيدة رشا العويصي في رسالة الوداع:
أهلي، أبي وإخوتي، سامحوني على كل شيء.
وما هو الشيء الذي تطلبين من أهلك أن يسامحونك عليه يا رشا،؟
تضيف الشهيدة رشا في رسالة لوداع: سامحوني لأنني اخترت طريق الفراق، وما بوسعي غير هذا الطريق، وأنا أسفة على هذا الر حيل.
هذا الكلام الحنون يؤكد أن رشا كانت موزونة نفسياً، وكانت تعرف أن فراقها سيوجع أهالها، وبالتالي فإن الفراق الاختياري هو فراق موجع للعاشق والمعشوق، وإذا كان أحبة الشهيدة رشا العويصي موجوعين لفرافها، فإنها كانت لحظة كتابة رسالة الوداع موجوعة لفراقهم بالقدر نفسه الذي تخيلت فيه وجعهم لفراقها، ولذلك أضافت: ما بوسعي غير هذا الطريق، وأكملت رسالة الوداع وهي تقول: أحبكم، وخاصة خطيبي، سامحني على كل شيء.
فأي تضحية هذه يا رشا؟ وأي وطن هذا فلسطين الذي من أجله تترك خطيبة خطيبها، وتؤجل زواجها، وتفارق الدنيا، وهي تزهو بالصعود؟
في الانتفاضات السابقة كنا نفتخر نحن رجال فلسطين بأننا تركنا نساءنا وأولادنا وأهلنا ووظائفنا، واخترنا طريق الكفاح والمقاومة، وكنا نتفاخر برجولتنا ونحن نضحي بالعمر والروح في سبيل الوطن، اليوم، وفي انتفاضة القدس، يتقدم الأطفال في عمر 13 عاماً، وهم يقتحمون سياج الموت، ويقفزون من فوق درجات العمر، يتدحرجون فوق الكرامة كي يصلوا مبكراً إلى الرجولة التي فتحت لهم ذراعيها، اليوم تتقدم على أرض فلسطين النسوة، وتعلن عن تجريد كل الرجال من نخوتهم وعزتهم وشرفهم وكرامتهم ووطنيتهم إن لم يختاروا الطريق الذي عبدته لهم رشا العويصي بدمها الدافق، وروحها البكر التي تزفها الملائكة.
ومنذ اليوم، سنفتخر بانتمائنا إلى فلسطين التي تنتمي إليها رشا العويصي، وسنمشي بين الأمم بهامة مرفوعة، بعد أن رسمت لنا رشا العويصي الآفاق السياسية للمرحلة المقبلة.
رشا العويصي لم تعد ابنة عائلتها، رشا صارت عائلة كل فلسطين، وبعد أن كانت قطرة ندى تتلألأ على جبين مدينة قلقيلية، صارت رشا العويصي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، وهي قيادة العمل اليومي في الميدان، وهي غزة والضفة الغربية، وهي الحكومة، وهي الرئاسة والوزارة والسيادة والقيادة، وذالك لأن الشعب الفلسطيني كله قد سار على درب الشهيدة رشا العويصي، بعد أن صارت رشا عروس الانتفاضة، وحورية الجنة التي طرزت من دمها بساط الحب لكل عشاق فلسطين، فانتظريهم يا رشا، إنهم قادمون إليك من نابلس ومن الخليل ومن رام الله ومن غزة ومن طوباس ومن القدس ومن عكا وبيت لحم، ومن جنين. إنهم قادمون إليك من كل بلاد العرب والمسلمين.
فايز أبو شمالة