ألطفل أحمد مناصرة، مش متزكر

بقلم: رشيد شاهين

المشاهد التي بثت من خلال الشريط الذي قيل انه "مسرب أو مهرب" بينما يجلس أحمد أمام جلاديه، استدعت الكثير من المشاعر المملوءة بالغضب العارم على جلاديه، والتضامن والافتخار بشبل فلسطين الذي سَيُخَلد كما محمد الدرة وفارس عودة وايمان حجو.
كما استدعت تلك المشاهد، كل جرائم القتل والحرق والاعدام الميداني والقتل الممنهج لاطفالنا، والتي مارسها جيش الاحتلال الفاشي ضد عائلة الدوابشة والطفل الحريق، وقبله كان محمد ابو خضير.
أحمد مناصرة، ابن الثالة عشرة، يخضع لتحقيق اقل ما يقال فيه انه لا اخلاقي ولا قانوني ولا انساني، حيث "يَتَنَمّر أو يستأسد" عليه ثلاثة من عناصر المخابرات، بينما يحاول هو بكل ما أوتي من قوة الابطال وعزيمة الرجال، ان يجد الكلمات لرد قسوتهم وانفعالاتهم التي اظهرت مدى الحقد الذي يعشعش في قلوب وعقول هؤلاء القتلة، فلم يجد سوى تكرار "مش متزكر".
ترى اي افعال كانت قد ارتكبت بحق أحمد ما وراء الكاميرا في ذات غرفة التحقيق، خاصة وان العالم اجمع شاهد ماذا فعل الجمهور الصهيوني وشرطة الفاشيين الجدد عندما كان ملقى في الشارع، يئن وجعا ونزفا دون اسعافه او تقديم اي نوع من انواع العلاج له.
الطفل مناصرة، كان تعبيرا حقيقيا عن وجع فلسطين وحقد جلاديه في كلا الشريطين، في الاول عندما كان ملقى في الشارع، وفي الثاني عندما كان يحلس أمام جلاديه. كما كان تعبيرا عن العجز والخذلان لا بل والخيانة التي تواجه شعب فلسطين، حيث جعل غربان الأمة من فلسطين قضية في آخر القائمة، وصارت اولوياتهم هي تدمير مَواطِنَ اخرى تنفيذا لاجندات القتلة وحلفائهم الذين يعملون على طمس القضية بكل ما تعني وما تمثل في الضمير العربي والانساني.
لم أشا أن اكتب عن أحمد، لان المشاهد اكبر من ترف الكتابة، فوجع أحمد، وجعنا جميعنا، إلا ان الفرق ان أحمد عاشه بكل ما فيه من مرارة وبأس وحقد وضغينة، هذا الوجع، لا يمكن اختصاره بكلمات او مقالات او حتى كتب، وهي "الكتابة" ربما التعبير الاكثر دقة لحالة الضعف التي أعيشها كما الأمة من مائِها لمائِها، وهي التعبير عن حالة القهر التي تميز ايامنا واسابيعنا، لا بل وكل سنيننا الماضية منذ قرون، ولا ندري إِلام يطول هذا الحال.
يلطم أحمد رأسه بطريقة تشي بِكَمْ الغضب في صدره الصغير، لم أشعر للحظة انه كان خائفا برغم دموعه الغوالي على الوجنتين الطاهرتين، بل كان يعبر عن حالة من التماسك، خاصة عندما قال للمحققين، بنبرة تنم عن استخفاف وقلة احترام، لا بل وازدراء، مصحوبة بضحكة مكبوتة، في المقطع 7,31 "انت مش عارف انها –السكين- مرفوعة وإِلَكْ ساعة بتسأل في" هذا ما قاله أحمد باستخفاف واضح ليرد عليه المحقق الرئيسي "تتواقحش وَلَكْ".
أحمد لا يتواقح ايها المحقق، هو يرد عليك بما يعتقد انه الرد الأمثل، يحاول أحمد مواصلة الرد، لم يجد احيانا الكلمات المناسبة، ويستمر مسلسل الاسئلة، إلى ان يجبر المحقق بالحاحه على أحمد ان يقول "مزبوط" فيرد عليه بنشوة "انتصار" قمة في الزيف "شكرا إِلَكْ"، معتقدا بانه فتح القسطنطينية.
ولأن أحمد وصل إلى نقطة "آمن" خلالها ان لا امكانية للتفاهم ولو بالحد الادنى مع جلاديه، قال بشيء من اليأس "كل اللي بتقوله صح"، وعاود البحث عن كلمات فلم يجد سوى ان يضرب رأسه بكلتا يديه طالبا ان يتم عرضه على الطبيب، حيث من الواضح انه كان قد تلقى العديد من الضربات على رأسه، وهذا كان جليا في الشريط الأول.
أحمد كان يجلس في غرفة التحقيق، يتعذب على يدي جلاديه، وكنا جميعا نتعذب على ما نحن فيه من ضعف وقلة حيلة وانكسار، كانت لحظة تجسدت فيها أمة العربان بكل ما تمثله من مهانة وخزي وعار. بكى أحمد، وابكانا جميعا لانه طرق على رؤسنا التي تكلست فاصبحت مجرد أشكال بلا محتوى، وذكرنا بان لدينا صدورا بلا ضمائر، وأمة بلا مستقبل.
هذا هو أحمد "العربي" مناصرة، الذي أراد جلاديه إرسال رسالة من خلاله إلى الأمة، بانها أمة بلا كرامة وشعوب تم "تنعيجها" فلم تعد تميز بين ما هو لصالحها وما الذي يضرها، ولا بين من هو معها ومن هو ضدها، أمة اصبحت تأكل نفسها، وتدمر ذاتها، ولم تعد قادرة على التصالح مع نفسها.
الرسالة التي أراد الفاشي ان يمررها إلى العقول المتكلسة، من خلال أحمد، بزفراته وصرخاته ودموعه وبراءة طفولته، ربما كانت قد مرت خلال القلوب "الباهتة"، و"الرهيفة"، إلا انها لم تمر ولم تعبر إلى قلوب اطفال القدس الذين اصبحوا في يومهم التالي على بث الشريط، لينقضوا بسكاكينهم على قطعان المغتصبين وجيش القتلة.
أحمد مناصرة، سيظل هامة وقامة عالية رغم انف جلاديه، وسيبقى وصمة عار تلاحقهم اينما حلوا، حتى وإن لم يُسْتجلبوا إلى المحاكم، وسيظل عار أحمد في عنق الأمة التي تخلت عن قلسطين واطفالها ونسائها وشيوخها، وفوق هذا وذاك قدسها و"مسجدها" الاقصى.

رشيد شاهين
12-11-2015