فَتَحت مأساة مخيم اليرموك وغيره من التجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية، النافذة الكُبرى على حكاية اللجوء والتعتير وحياة الذلِ التي عاشها اللاجئ الفلسطيني في دياسبورا المنافي والشتات منذ نكبته الكبرى عام 1948. فقد نالت منه نيران الأزمة السورية المُستعرة دون وجه حق، ودون أن يكون عاملًا في إذكائها، بل كان وما زال بغالبيته الساحقة في موقع الحياد الإيجابي الذي يَمُد اليد الطيبة للمساعدة على بلسمة الجراح، ويدفَعُ باتجاه البحث عن حلول سياسية لما يجرى في سوريا، ووقف نزيف الدم والتدمير الذاتي.
دراما النكبة الفلسطينية وتداعياتها المُرةِ مرارةَ العلقم، تَكتَسي اليومَ إضافاتٍ تراجيدية تُسَجّل في سِجلها اللامنتهي منذ زمن الهجرات الطويلة من عام النكبة وحتى اللحظة الراهنة، حيث يتصدر مخيم اليرموك المشهد المأساوي لمآلات مؤلمة تلاحق لاجئي فلسطين في الشتات.
مأساة مخيم اليرموك، فاقت بتفاصيلها وأحداثها اليومية المؤلمة ما تَعَرضَ له الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية التحررية المعاصرة في أكثر من محطة من محطات السيرة والمسيرة الفلسطينية خلال العقودة الأخيرة.
في مأساة مخيم اليرموك، تم استرخاص الدم الفلسطيني وهدره على مذبح صراعات (لا ناقة ولا جمل) للفلسطينيين بها (أقصُدُ كمواطنين وحتى كقوى سياسية). كما تم استسهال هذا العبث الهائل بمصير الناس الذين دفعوا الأثمان والتكاليف الباهظة، فمنهم من سَقَطَ في شوارع مخيم اليرموك وأزقته وأطرافه، وروحه مُعلقة تَنشُدُ الاستشهاد هناك على أرض الوطن السليب في فلسطين في يافا وحيفا وعكا وصفد والناصرة والجليل.. وعلى أرض الجولان، ومنهم من ماتَ في عرضِ البحر في هجرات قَسرية لا يعلم مَخَاطرها إلا رب العالمين، ففي يوم واحد غَرِقَ قاربٌ واحد أودى بحياة (320) مواطنًا من فلسطينيي سوريا من مخيم اليرموك في عرض البحر الأبيض المتوسط مقابل (جزيرة لامبيدوزا) القريبة من الشواطئ الإيطالية دون أن نسمَعَ صوتًا أو نداءً يَصرَخُ في دنيا بلاد العرب أوطاني أن أوقفوا ما يجري بحق هؤلاء المنكوبين من أبناء فلسطين.
لقد كانت مجزرة صبرا وشاتيلا أواخر صيف العام 1982 والتي نَفذَتها ميليشيات قوى اليمين الفاشي اللبناني وبتغطية من قوات الغزو الصهيوني للبنان، فضيحة عصرنا حتى الأبد كما وصفها الشاعر العربي الفلسطيني والعالمي محمود درويش، لكن ما حدث ويحدث في مخيم اليرموك هو عورة عروبتنا وعار إنسانيتنا حتى القيامة الكبرى، حيث استهداف الشعب المكلوم والمظلوم والمُثخن بالجراح، والغارق في أزمان التعتير منذ النكبة.
لقد بات واضحًا، ليس من الآن، بل منذ وقت طويل، أنَّ على الفلسطيني أن يتحَمّل أوزار كل الدنيا في أزماتِ بلاد العرب، وأن يكون على الدوام مشجبًا لتعليق تلك الأزمات، وعليه في الوقت نفسه أن لا يصرخ، وأن لا يُطلِقَ العنان لكلمة (آخ). فقد بات عليه أن يمُوتَ بصمت وسكونٍ مُطلق. وأن لا تنطُقَ شفتاه بكلمة ولو كانت كلمة (وجعٍ أو ألمٍ) لا تتحمله أجساد ومشاعر وعواطف وأرواح البشر. فالفلسطيني عند من لا يريد أن يرى الحقيقة الراسخة، وعند الموتورين والحاقدين، من طينة تتحمل السخط واللعن … وحتى التقبيح.
ما أَسهَلَ أَن يُلعَنَ الفلسطيني، وما أَسهل أن يُخوّن الفلسطيني، وما أَسهل تحميل الفلسطيني وزر مصائب وقعت في أوطانٍ عربية، ومسؤولية أزمات هنا وهناك. وما أَسهَلَ أن يكونَ الفلسطيني كَبشَ فداء، وما أَسهل أن يَخسرَ دومًا في كل جولة من الجولات. فدروس ما حصل مع الفلسطينيين في أكثر من مكان ناصعة وفصيحة وكان آخرها ما حصل مع العدد المتواضع منهم على أرض العراق بعد الغزو الأميركي، وما حصل أيضًا مع الفلسطينيين في الكويت… وصولًا لأيامٍ ليست بالبعيدة حين رُبطَت بالفلسطيني أعمالٍ أمنية حدثت في هذه العاصمة أو تلك.
الفلسطيني عندهم، ابن الجارية الملسوع دومًا، وهو الضلع القاصر في بلاد عربية ضاقت عليه على اتساعها. وهو الجزء الضعيف في المعادلة، و(الحيط الواطي) الذي يُمكنُ دعسهُ ودهسهُ دون مُسألة، ودون حسيب أو رقيب في بلادٍ تَغِيبُ فيها القضايا النبيلة وتَحُل مكانها المتاجرة السياسية بالقضايا الإنسانية العادلة والنبيلة. إنها لعنة النكبة، لعنة ذُلِ اللجوء الفلسطيني في بلاد العرب أوطاني. فبئسَ سياسات أَذلت ناسها وأهلها، وبِئسَ سياسات ما زال الفلسطيني، أي فلسطيني مُتهمًا عندها حتى يثبت براءته.
لقد صبر شعبُ فلسطين، جَمَلَ المحامل، وما زال الصبرُ ترياق روحه وحياته المُعذبة، صَبُرَ صَبرَ أيوب، وأيوب مل من صبره. فقد كُتِبَ عليه أن يَصبُرَ حتى يأتي فرجٌ، وإن طال الزمن سيأتي وليس ببعيد في بلاد منكوبة فيها من قلب محاور الزمن حتى بات المواطن يمشي على رأسه دون أن يشعر بالدوار. ومع هذا فكلما حاولوا أن يسقوا الشعب الفلسطيني كأس اليأس والعلقم .. أصبح الأملُ فيه وعنده أكبر، فما بين جُرحٍ وجُرحٍ ينبُتُ الأملُ، وحتمًا ستشرق الشمس ولو من فراغ مَعِدَةِ كل مواطن ممن تبقى من أبناء مخيم اليرموك داخله.
إن من كل من عَمِلَ على تحويل مخيم اليرموك ساحة اقتتال وتتطاحن، عليه الخروج منه ومن بواباته، فاليرموك وغيره من مواقع الشتات والدياسبورا الفلسطينية هو خيمتنا الأخيرة كما كنّا نقول، ومُجرم من يريد أن يكون المخيم متراس الصراع، ومن يريد المخيم أن يكون ساحة صراع، ومن يريد الدم الفلسطيني في سوق الاستثمار السياسي في صراعات داخلية حتى تحت أي عنوانٍ أتى.
إن أصحاب الرؤوس الحامية يجب أن يخرجوا من هذا المضمار وأن يستريحوا بعيدًا، فمصلحة سوريا والشعب السوري، ومصلحة مخيم اليرموك وأهله، تَفتَرض العودة لتحييد مخيم اليرموك كما كان قبل نهاية العام 2012، وفقًا لحالة التوافق الوطني الفلسطيني العام الذي يقول بالحياد الإيجابي للفلسطينيين في الأزمة السورية. فمخيم اليرموك وحتى في ظل وجود غالبية سورية هو تجمع فلسطيني من حيث الطابع العام، وهو ما يفترض الحفاظ على هذا الطابع لأكبر تجمع فلسطيني خارج حدود أرض فلسطين التاريخية، والإصرار على تحييده في مسار أزمة طاحنة لا ناقة ولا جمل للفلسطينيين. فبقاء الحالة الراهنة على ما هي عليه ستجعل من الخيار الأمني والعسكري هو الخيار السائد، وهو خيارٌ مُدمر ومُفجع على كل حال بالنسبة لمصالح مخيم اليرموك وأهله الطيبين.
سيبقى مخيم اليرموك في ذاكرة فلسطين المُعطّرة، عنوانًا للعودة إلى فلسطين، سيعود مع لاجئي فلسطين محمولًا من سوريا إلى فلسطين مع فجر العودة. سيكون مخيم اليرموك هناك في حيفا ويافا وصفد ومعه باقي مخيّمات وتجمعات الشعب العربي الفلسطيني في سوريا. فمخيم اليرموك جزءًا من الذاكرة والوجدان والتاريخ لمسيرة شعب يأبى الذل والخضوع والخنوع، وما زالت بوصلته مشدودة نحو وطنه فلسطين.
علي بدوان