أعلنت الحكومة الإسرائيلية في الثامن من نوفمبر الجاري، أنها في صدد اتخاذ خطوات تتعلق بما سمته "حسن نوايا" تجاه الفلسطينيين، من ذلك: تخفيف القيود المفروضة على تنقلاتهم وتحركاتهم في الضفة الغربية، وخفض منسوب الاحتكاك معهم، بالتوازي مع خطوات لتحسين أوضاع المعيشة وتعزيز الاقتصاد الفلسطيني، ومكانة السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، وإقرار جملة من مشاريع البنية التحتية في المناطق (سي) الخاضعة بالكامل للسيطرة الأمنية الإسرائيلية.
هذا على صعيد النوايا، والنصوص الموزعة على أجهزة الإعلام، في حين أن الوقائع على الأرض ما زالت تنحاز إلى عكس وضد ما صرحت به الحكومة الإسرائيلية، فصباح يوم العاشر من نوفمبر الجاري، اقتحمت قوات إسرائيلية المسجد الأقصى، وبرفقتها مهندس، بحسب ما ذكرت وكالات الأنباء. وفي هذا الصدد يمكن القول إن المقدسيين اعتادوا على اقتحامات الجنود الإسرائيليين للمسجد، وواجهوا ذلك بما استطاعوا ويستطيعون، لكن اصطحاب الجنود لمهندس معهم، طرح علامات استفهام كثيرة، والسؤال المباشر في هذا المجال: هل بدأ التخطيط العملي لتنفيذ مشاريع هندسية معينة داخل الحرم القدسي، كفيلة بتغيير جغرافيته وشكله وهندسته وتكويناته ودوره؟
أما عن "النوايا الحسنة" الأخرى، فإنها تتعلق بالكلام عن تخفيض عدد الحواجز المقامة في الضفة الغربية، التي وصل عددها إلى نحو 500 حاجز رسمي مستمر ليلا ونهارا، هذا عدا الحواجز الطيارة أو المؤقتة، التي تقام بسبب تبريرات معينة لدى السلطات الأمنية، هذا غير ما تركه جدار الفصل العنصري من تأثيرات على حياة الناس والطرق الالتفافية الكثيرة التي أقيمت لخدمة المستعمرين الصهاينة، وهي التي التهمت نحو 10 في المئة من مساحة الضفة الغربية، إضافة إلى الإجراءات التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية بتثبيت بوابات حديدية على مداخل ومخارج بعض أحياء مدينة القدس، وفي غيرها من المدن والبلدات الأخرى الفلسطينية، في محاولة لخنق ومراقبة تحركات الفلسطينيين وتعطيل مصالحهم، وجعل حياتهم في أقسى وأصعب حالاتها. كما أن السلطات الإسرائيلية زادت من وضع مكعبات إسمنتية ضخمة على بعض المداخل والأزقة في أحياء القدس وفي غيرها أيضا.
وفي هذا الصدد فإن زائرا للضفة الغربية وجد يافطة قديمة كتب عليها أن القدس تبعد عن رام الله نحو 13 كيلومترا، وأن الوصول إلى القدس لا يستغرق أكثر من خمس عشرة دقيقة في الحالات العادية قبل الاحتلال، وحتى بعد ذلك في المراحل الأولى منه، إلا أن الوصول إلى القدس من رام الله حاليا يستغرق نحو ساعة ونصف الساعة، فهل هذا من مبادرات "النوايا الحسنة"، التي يمكن أن تخفف على الفلسطينيين تحركاتهم وأعمالهم وتنقلاتهم؟ كما أن سحب هويات بعض المقدسيين وغيرهم، وزيادة الاعتقال والإعدام الفوري في أي مكان، هو من تسهيلات "النوايا الحسنة" أيضا؟
أما في ما يتعلق بتحسينات الوضع الاقتصادي، وإنشاء مشاريع للبنية التحتية وغيرها من "جزرة" الاغراءات، فإن ذلك لا يتعدى الأوهام التي في أحسن حالاتها تتعلق بزيادة عدد تصاريح العمل الممنوحة لبعض الفلسطينيين، كي يكونوا من الأيدي العاملة الرخيصة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا الأمر سيرتب على العامل الفلسطيني المرور بعشرات الحواجز الإسرائيلية التي تذيقه مر التعامل والإهانات، كما أن ذلك العامل في ما لو وصل إلى مكان وجد فيه عملا، فإن رب العمل لا يستطيع حمايته من اعتداءات المستوطنين في الليل أو في النهار.
استباحة
أما حكاية الـ 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية، المحكومة أمنيا من قبل السلطات الإسرائيلية، التي أباحها لها اتفاق أوسلو، فإن هذه السلطات تتصرف كقوات احتلال في هذه المساحة الشاسعة والواسعة من الضفة الغربية، ولم تتوان عن مصادرة مساحات واسعة من الأراضي فيها، وتحويلها إلى مستعمرات أو لإقامة منشآت عسكرية وأمنية وتفريغ سكانها منها، وطردهم لبناء مشاريع تخدم المستوطنين. كما أن ينابيع المياه ومصادرها الأخرى السطحية والجوفية تمت السيطرة عليها، ما حرم السكان الفلسطينيين الاستفادة منها، خصوصا أن بعض سكانها هم من الفلاحين والبدو الفلسطينيين الذين يعتمدون في حياتهم على الزراعة وتربية المواشي، كما حصل في منطقة الأغوار على سبيل المثال.
وليت الأمر انحصر في الممارسات الاحتلالية الاستحواذية في المنطقة (سي) فقط على خطورته وسوئه، بل إن اتفاق أوسلو أيضا سهل للسلطات الاسرائيلية بأن تكون شريكة أيضا في الإشراف والإدارة والحكم والتحكم في 21 في المئة من مساحة الضفة. أما المساحة المتبقية التي قضى اتفاق أوسلو بأن تديرها السلطة الفلسطينية، فإنها خاضعة للاحتلال أيضا. فأين هي "النوايا الحسنة" والتسهيلات من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة؟
ما يجدر ذكره هنا أن صناعة وزراعة ومنتوجات المستعمرات المقامة على أراضي الضفة الغربية، التي وصـــــل عدد الســـكان فيها إلى نحو 350 ألف نسمة، فإنها أخذت تنافس وتطغى على صناعة وزراعة الفلسطينيين، كما انها أصبحت تصدر منتوجاتها إلى خارج الأرض المحتلة، كأنها من منتوجات الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وذلك تفاديا لمقاطعة بعض الدول لما تنتجه المستعمرات المقامة على أراض محتلة، وهي غير معترف بها شرعيا وقانونيا. وهذا الأمر ترتب عليه تعطيل الكثير من المصالح الفلسطينية، فهل هذا الأمر هو أيضا من ضمن "النوايا الحسنة" وتسهيل حياة الفلسطينيين؟
٭ كاتب فلسطيني
سليٍمان الشّيخ