ان ذكرى اعلان الاستقلال الفلسطيني تأتي وسط الانتفاضة الفلسطينية العارمة التي سوف تدخل التاريخ من أوسع أبوابه ولا أقصد هنا تاريخ الشعب الفلسطيني أو المنطقة العربية فحسب، بل أشير إلى التاريخ العالمي.. لأن الانتفاضة كما بات يقر بذلك الكثيرون سيكون لها نفس الموقع والمكانة اللذين احتلتهما االانتفاضتان الاولى والثانية.
ليس في قولنا هذا أي قدر من المبالغة، فها هي الانتفاضة الشعبية تدخل شهرها الثاني، لتكون بذلك حدث جديد في تاريخ المنطقة التي تعيش اجواء الحروب، إن لم نقل أكثر من ذلك، وهاهي حصيلة شهرين تستمر وتتصاعد وتتجدد في الاستمرار وتبعث على الثقة بأننا أمام نمط حياة جديد لجماهيرنا تحت الاحتلال يبشر بأن الانتفاضة ستتواصل مهما كانت التضحيات.
ان المرحلة الراهنة من عمر القضية الفلسطينية هي مرحلة مصيرية، نظرا لما يحيط بها حاليا من إرهاصات عديدة، فالموقف الأمريكي المعادي لفلسطين وقضيتها وشعبها يستدعي موقفا عربيا جماعيا يخرج من دائرة الانتظار والتبعية، وذلك باتخاذ قرار حازم يؤكد على حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة على كامل ترابه، وعاصمتها القدس، وضمان حق العودة للشعب الفلسطيني الى دياره وممتلكاته التي شرد منها وفقا للقرار الاممي 194.
إن استمرار خيار المقاومة بكافة اشكالها هو الخيار الوحيد الممكن أمام الشعب الفلسطيني، ولا يمكن المراهنة على الحلول الامريكية الصهيونية والمفاوضات، لأن تحرير الارض والانسان واستعادة الحقوق يرتبط بدحر الاحتلال الصهيوني، وهذا يتطلب التمسك بالثوابت الوطنية المتفق عليها، رغم الظروف الموضوعية السائدة في هذه الفترة بما في ذلك اختلال ميزان القوى على الصعيدين العربي والعالمي، فهذا لا يعني أن نسلّم بالحلول المطروحة على حساب الحقوق التاريخية وإقامة دولة فلسطين، بل على ضوء الظروف القائمة تصبح المهمة الأساسية حالياً هي الصمود وعدم الرضوخ والسير مع المخطط الأميركي ـ الصهيوني المرسوم من قبل هذه القوى لتصفية القضية الفلسطينية.
ان اعلان الاستقلال الفلسطيني يستوجب من الجميع رفض الضغوط، أو اي حلول على حساب الثوابت الوطنية، والعمل على دعم انتفاضة شباب وشابات فلسطين ، وايجاد آليات منها التوجه الى المؤسسات الدولية وتعزيز الوسائل الكفاحية على كل المستويات، والحفاظ على المكتسبات التي تحققت عبر نضالات طويلة، وأهمها: الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، واستثمار جميع طاقاته، بوصفه شعباً له حقوق سياسية معترف بها دولياً، وعلى رأسها حقه في الحرية والاستقلال والعودة.
ان اعلان وثيقة الاستقلال التي يحتفل بها الشعب الفلسطيني بإعلانها ليست كما يعتقد من يخطون خطواتهم الاولى في مسيرة الكفاح والنضال الوطني، مجرد حبر على ورق، فقد كتبت حروف وثيقة الاستقلال من دم وعرق في ميادين الكفاح الوطني، كتبت حرفها دموع الثكالى وعذابات الاسرى وانين الجرحى، صيغت بمنتهى الدقة الادبية والعمق السياسي بايدي الشاعر الشهيد محمود درويش، واعلنها الرئيس الشهيد الرمز ياسر عرفات في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988، على ارض الجزائر، هذه الدولة العربية التي سجلت في التاريخ حضورا ثائرا وبطولات أجبرت الاحتلال على الرحيل، لذا فهي دائما قريبة من الحضور والنضال والحلم والفعل الفلسطيني، فنحن نحتاجها اليوم من أجل رسم الصورة الحقيقية لفلسطين.
ان شعبنا يرسم بالدم خريطة فلسطين ويسعى بأمثولة كفاحية لتغير الوقائع على الارض من خلال تمسكه بارضه ومقدساته، وهو لقادر طال الزمن أم قصر على تحقيق حلم الانتصار والعودة، وقطع الطريق على كل محاولات الإجهاض والطمس والتجاوز لأهدافه الوطنية وصولاً لتجسيد الدولة المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.. وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
من هنا نرى ان اعلان الاستقلال يجب ان يتعزز بفعل الانتفاضة اليوم التي وفرت قاعدة لتعزيز الفكرة القائلة بضرورة مشاركة الجميع في القرار السياسي الفلسطيني، وإيجاد السبل التي تكفل أن يشمل النظام السياسي الفلسطيني جميع القوى الوطنية الفلسطينية ، لأنها تحظى بقبول شعبي واسع، على ارضية اتفاقات المصالحة في القاهرة، فالتجربة المستمدة من الوقائع على الأرض أثبتت بأنه لا مخرج إلا بحلول مبدئية هي رسم استراتيجية وطنية والحفاظ على المشروع الوطني وحماية منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيل مؤسساتها على أسس ديمقراطية جبهوية، بعيداً عن الفردية التي أضرت كثيراً بقضيتنا الفلسطينية.
ولقد بات يحدونا كبير الأمل في أن نتيجة هذا الفصل الجديد من فصول الصراع الفلسطيني- الصهيوني والعربي- الصهيوني، سوف تحسم لصالح شعبنا وثورتنا وانتفاضتنا، التي تحقق المكاسب ، على ضوء إعلان الاستقلال وسلسلة الاعترافات الدولية المتتالية بالدولة الفلسطينية، والنفوذ الهام الذي بدأت تحتله القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، هذه الانتصارات التي استندت إلى سلسلة متصلة من المكاسب والمنجزات وابرزها المقاطعة الدولية لمنتوجات الاحتلال.
في ظل هذه الظروف نقول أن الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال قد تلمس بتجربته الحسية المباشرة خياره الوحيد خيار الانتفاضة وهذا ما أصبح يلقى التفهم والاستيعاب الكامل على المستويات الإقليمية والدولية، وباتت القضية الفلسطينية وليس الصراع العربي الصهيوني وحده، هي القضية التي تستأثر بالبحث والاهتمام، وهاهي المرة الأولى بعد مفاوضات عقيمة استمرت اثنان وعشرون عاما دون نتيجة ، رغم إدراكنا العميق للعقبات والعراقيل العديدة التي مازالت تعترض الوصول الى تحرير الارض، ورغم إيماننا التام بأن المسافة بين الإعلان عن الدولة وإقامتها فعلياً على الأرض مسافة طويلة ومريرة معبدة بالشهداء والتضحيات والعذابات.
وعلى الرغم من إيماننا العميق بأهمية ما يتم الحديث فيه من بحث سياسي وتكتيكي مباشر، إلا أن إيماننا أعمق بأن الوفاء للانتفاضة والإخلاص لما حملته من معانٍ ودلالات يستوجب الشروع في صياغة نظرية الانتفاضة أو البحث في اتجاهاتها الاستراتيجية، ألم تقرع الانتفاضة سؤال الأزمة التي تعانيها حركة التحرر الوطني العربية بعد انهيار النظام العربي في ظل الهجمة الامبريالية الصهيونية الاستعمارية الارهابية والتحاق هذا النظام بركب هذه الهجمة ، ألم تطرح انتفاضة الحجر والسكين بقوة مشكلة الأزمة التي تعيشها قوى البديل الثوري العربية، بعد الفشل الذي تحقق حتى الآن في الإفادة من الفرصة الموضوعية التي وفرتها الانتفاضة للنهوض ،أو للبدء بالنهوض بحركة الجماهير العربية، تدعم الانتفاضة الفلسطينية وتبقي البوصلة باتجاه فلسطين .
لذلك لم يكن يخفي عنا أن البعض نظر إلى دعوتنا هذه بضرورة التعامل مع الانتفاضة كمحطة نوعية جديدة في مسيرة نضالنا، بوصفها نوعاً من "الرومانسية الثورية" أو انشداداً غير مفهوم للاستراتيجي على حساب المرحلي والتكتيكي، لكن الأمر كان وما يزال يختلف كل الاختلاف عن نظرات خاطئة كهذه، فقد كنا وما نزال من المؤمنين بأن قيمة أي تكتيك أو شعار مرحلي، إنما تكمن في قدرته على اختصار المسافة نحو تحقيق الاستراتيجية.. وكنا وما نزال نؤمن بأن ثمة فارقاً كبيراً بين التعامل مع الانتفاضة كحدث يتوجب استثماره كيفما اتفق وبأي شروط وبين التعامل معه كمحطة نوعية تؤسس لهذا التحويل المطلوب في طبيعة الصراع العربي- الصهيوني وقواه المحركة على الجبهة الفلسطينية- العربية.
وفي ظل هذه الاوضاع لا بد من ان نعمل الإنجاز الأفضل والأمثل للأهداف والمطالب، حتى التكتيكية والمرحلية منها، وهذا يتطلب التعامل مع الانتفاضة بوصفها محطة نوعية جديدة في مسار كفاحنا، لأنه بهذه الطريقة، وبهذه الطريقة فقط، نضمن أفضل وأمثل دعم وإسناد للانتفاضة على مختلف الصعد ، رغم إيماننا بأن منظمة التحرير الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها الوطنية ستكون موضوعياً في هذا الاتجاه ،ونقول لقد آن الأوان لكي نكف عن ترديد عبارات الأزمة أو "المصاعب" التي نواجهها كحركة تحرر وطني، فلسطينية وعربية، وآن الأوان للشروع عملياً في رسم مسار الخروج من هذه الأزمة، لأن شباب وشابات واطفال الحجارة والسكين والدهس والمقلاع وشعب فلسطين يريدون دولة مستقلة وذات سيادة , يريدون علما ونشيدا وطنيا وجواز سفر ومقعدا رسميا في هيئة الأمم , وأرضا يستندون لها لتحرير كامل تراب وطنهم, لا يريدون دويلة منقوصة السيادة او سلطة رمزية ، وهذا تأكيد الوفاء والالتزام بالأهداف التي ضحى من أجلها الشهداء، وإعلاء معاني التضحية الواعية الملتزمة بخدمة الشعب والقضية.
ختاما لا بد من القول ان انتفاضة فلسطين ودماء شهدائها نقلت أو جعلت شعار الدولة الفلسطينية ينتقل من حيز الإمكانية التاريخية إلى حيز الإمكانية الواقعية ، وأن هبت شعبنا , شبابا وشاباتنا وأطفالنا ورجالنا ونساءنا تؤكد ان الانتفاضة اخذت طابعها الشعبي الجماهيري الديمقراطي , منذ تلك اللحظة التي انطلقت من اجله بمواجهة الاحتلال والاستيطان والقتل والحرق والاعتقال وسرقة الارض وتدنيس المقدسات الاسلامية والمسيحية وتهويد القدس، واكدت على اهمية أن شعار الدولة الفلسطينية أصبح قائماا وممكنا تطبيقه بالمدى الزمني المرئي ، ونحن نتطلع الى دورة المجلس الوطني الفلسطيني , حتى تكون الانتفاضة على جدول اعماله , بعد ان جسدت الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال ، وهذا يدعونا إلى مواصلة الكفاح وتحمل التضحيات لنيل الأهداف المشروعة للشعب الفلسطيني.
بقلم/ عباس الجمعة
كاتب سياسي