الساحل وفنجان القهوة

بقلم: أسامه الفرا

ما زلت أذكر جيداً كيف تسللت القهوة إلى داخلي وأنا أقلب صفحات كتاب "ذاكرة للنسيان" لشاعرنا الكبير محمود درويش، لا أنكر أنها كانت قبل ذلك ضيفاً ثقيل الظل يسعدني فراقه، حتى عندما امتطى درويش صهوتها بكلماته الرائعة "أحن إلى خبز امي وقهوة أمي" كي يبرم صلحاً ثقافياً مع امه، لم يدفعني ذلك إلى الاقتراب منها، لكن عندما تعثرت خطواته في إعداد فنجان قهوته بالمسافة الزمنية القصيرة بين قذيفة وأخرى أثناء حرب اسرائيل على لبنان عام 1982، دفعني ذلك لأن أخوض غمار التجربة، ومن يومها وأنا احرص على اقتفاء أثر قهوته، واخذت بمقولته "القهوة لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت".
رحت أحضر فنجان قهوتي على الطريقة "الدرويشية"، بينما كانت القهوة على وشك إعلان ثورتها وهو ما يستعدي أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر، وقعت عيناي على مجلة غادرها غلافها الخارجي تضامناً منه مع قدمها، عندما تتخلى المجلة عنه يكتنفها الكثير من الغموض، كأنها فقدت هوية تعريفها ومعها يزداد الفضول لإكتشاف الغموض الذي يلفها، تشيب الأوراق كما يشيب الرجال وعلامة شيبها الإصفرار، تترك الأوراق الكلمات المنقوشة على سطحها تعيش حياتها بالطريقة التي يحددها الواقع المقيمة في كنفه، لذلك الكلمات لا يمكن ان ترشدك لمعناها الحقيقي بمعزل عن المكان والزمان الذي كتبت فيه، كثيرة هي الكلمات التي تحافظ على شكلها الخارجي دون أن تتمكن من الحفاظ على بريقها الذي كان، فهل تشيب الكلمات وتفقد في اتون عمرها لمعانها وبريقها؟.
يبدو أن المجلة ببشرتها المائلة الى الاصفرار جعلتها عرضة لان تكون هي الضحية من بين مقتنيات المكتبة، لا يمكن لمقتنياتها أن تكون بذات القدر والأهمية، وليس من المنطق في شيء أن تقف المجلة على قدم المساواه مع الكتاب من حيث الاهتمام، وشتان بين الإهتمام الذي يفرضه المظهر الخارجي للكتاب وبين أهميتة التي يستقيها من مضمونه ومحتواه.
المجلة صدرت قبل أن تولد السلطة الفلسطينية وحملت اسم " الساحل"، كانت تصدر عن مركز الساحل للتوثيق والإعلام، تولى يومها الأخ المناضل طلال أبو سبيتان رئاسة مجلس إدارتها، لم يحمل يومهاً مؤهلاً أكاديمياً في التخصص الاعلامي، لكن سنوات الاعتقال الطويلة في سجون الاحتلال صقلت موهبة الكتابة لديه والأهم أن الحالة النضالية التي عاشها مع رفاقه داخل أقبية السجون وخارجها مكنته من التفاعل مع طموحات شعبه وتفاصيل معاناته، رحت أقلب صفحاتها وكأنني أريد أن أستعيد بحركة أوراقها سنوات مضت، كانت المجلة منبراً للكل الفلسطيني بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية، رغم أن المجلة كانت أحد أذرع حركة فتح التثقيفية والتوعوية، فتحت صفحاتها لقامات وطنية أعطت من حياتها الكثير للوطن، كثير منهم لم يعد الهيكل التنظيمي اليوم يتسع لهم، كيف يضيق الاطار بصور لطالما كانت عناويناً للنضال؟.
أعدت المجلة إلى مكانها بين الأوراق المكدسة والمبعثرة في المكتبة، كي تبقى جزءاً من الذاكرة عن حقبة كان العطاء فيها منهجاً، لم يكن من أبطالها من لديه مثقال ذرة من ثقافة جني المكاسب التي استشرت فينا، ابتعدت عن المجلة دون أن يبتعد السؤال، كيف استطاعت الحركة أن تصدر مجلة بذلك القدر من المهنية في زمن القحط المالي في الوقت الذي يغيب عنها اليوم اصدارتها التوعوية والتثقيفية؟.

د. أسامه الفرا