بداية لا بد من التأكيد بأن الأحزاب والفصائل الفلسطينية نظرا لما لها من تجربة نضالية وإمكانيات وعلاقات وقدرة على الحشد والتنظيم ،وحتى في ظل أزمتها البنيوية ،ما زالت الفاعل السياسي الرئيس ،وبالتالي فإن موقفها سلبا أو إيجابا يُؤخذ بعين الاعتبار في تحديد مصير وتوجه الانتفاضة. إن أي نقد للأحزاب حتى وإن كان حادا ،لا يعني التقليل من شأنها أو يتضمن دعوة لتجاوزها ،بل نقد لبعض النخب والتوجهات داخل الأحزاب تسيء للأحزاب نفسها بقدر ما تسيء للقضية الوطنية .
عندما تتجادل النخب السياسية حول ما يجري في المناطق المحتلة إن كانت انتفاضة أو مجرد حالة غضب أو هبة، وهل من المفيد تحويلها لانتفاضة مسلحة أم لا؟، وعندما تكتفي الأحزاب بالخطابات والدعوة لتصعيد الانتفاضة دون أن تُنزل جمهورها إلى الشارع ،فهذا يعني أن هذه الهبة أو الانتفاضة أثارت الخوف عند بعض الأحزاب وأصحاب المصالح المتنفذين في السلطتين ، وأنها دخلت منذ بدايتها في حسابات المصالح والربح والخسارة للنحب،وفي المناكفات المتعلقة بالانقسام وقد تكون ضحيتهما .
إن القوى التي تصر على كونها مجرد هبة أو حالة غضب عابرة أنما تخفي خوفها مما يجري لأن الانتفاضة لم تكن بمبادرة من الأحزاب والفصائل ،والمنتفضون لم يأخذوا إذنا منها كما كان في الانتفاضات السابقة ، لذا تتردد الأحزاب بالمشاركة فيها ولا تريد تحويلها لانتفاضة وثورة شاملة على الاحتلال لأنها تخشى أن الشعب تجاوزها ولم يعد يثق بها ، وقد يُفرز قيادة جديدة.
حتى مع افتراض أنها هبة وحالة غضب ناتجة عن الإحباط ،فلماذا لا توظف الأحزاب والنخب السياسية هذه الهبة وحالة الغضب لتحقيق أهداف وطنية محل توافق وطني ؟ ولماذا لا توَحِد خطابها الإعلامي ؟ ولماذا لا توظف الهبة ووحدة الشعب الميدانية لإنجاز المصالحة الوطنية وتفعيل ما تم التوافق عليه سواء في اتفاقات المصالحة أو بالنسبة لقرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير ؟ أو على الأقل تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة طوارئ وطنية لمواجهة التحديات والأحداث المتراكمة والمستجَدة .
بعض النخب السياسية والمدنية واقتصادية تخشى أن تتدحرج الهبة الشعبية ككرة الثلج وتتحول لانتفاضة أو ثورة شعبية عارمة ، ويأخذ الشعب زمام المبادرة ويصنع قيادة ميدانية لا تعترف بسلطة النخب القائمة ولا بمؤسساتها والتزاماتها وتكشف الفساد والمفسدين وكل من تآمر على الشعب. الانتفاضة أو الهبة أو الغضبة الشعبية الراهنة إن كانت كشفت هشاشة دولة الاحتلال واستحالة التعايش مع الاستيطان ، إلا أنها أيضا وضعت الأحزاب والنخب السياسية أمام تحد واختبار حقيقي لنواياها وصحة خطابها.
يبدو أن بعض النخب لم تقطع نهائيا مع تسوية أوسلو وخيار المفاوضات ، ومازالت فاقدة الثقة بالشعب وقدراته وتتخوف من أية انتفاضة شعبية تلقائية أو عفوية حتى وإن كانت سلمية قد تخلط الأوراق في الضفة الغربية ، وبعض النخب السياسية في غزة لا تريد الانخراط في الانتفاضة وتوظيف ما لديها من قدرات عسكرية حتى لا تفقد سلطتها في غزة ويتعثر مشروعها حول التفرد بحكم غزة . الأمر لا يتعلق بالنخب السياسية فقط بل هناك نخب اقتصادية وفي المجتمع المدنية تشعر بأن الانتفاضة تهدد مصالحها ،فالانتفاض أصابت بالرعب الفاسدين الذين يراكمون الثروات بطريقة غير شرعية مستغلين ضعف السلطة ومؤسساتها الرقابية ،سواء تعلق الأمر بالشركات الاحتكارية أو بأموال الإعمار والتحكم بحركة السلع والبضائع والأفراد.
لم يحدث في تاريخ الثورة الفلسطينية ولا في تاريخ حركات التحرر أن قيادات ونخب سياسية لشعب خاضع للاحتلال تخشى من ثورة الشعب على الاحتلال، أو تبرر موقفها المتردد باختلال موازين القوى لصالح الخصم . لا نقول إن الانتفاضة الراهنة ستهزم إسرائيل وتحرر الأرض غدا أو بعد غد، و نتفهم التخوفات من عسكرة الانتفاضة ضمن الواقع الانقسامي الراهن وقبل تشكيل قيادة وحدة وطنية ، ولكن ، إن كانت الأحزاب لا تريد استعمال سلاحها وصواريخها وإنفاقها ،فأين جمهورها الذي تُخرِجه بمئات الآلاف في ذكرى انطلاقتها أو في مهرجاناتها الحزبية ؟ ! إن كانت حركة حماس لا تريد استعمال صواريخها وإنفاقها في غزة فأين جمهورها في الضفة الغربية من الانتفاضة ؟ ونفس الأمر ينطبق على الأحزاب الأخرى . إن مشاركة العشرات أو المئات فقط في الانتفاضة وغالبيتهم من خارج المحزبين يؤكد أن كل الأحزاب لم تتخذ بعد قرار المشاركة في الانتفاضة لأنها تتخوف من تداعياتها على مصالحها.
تقف الأحزاب وخصوصا حركتي فتح وحماس أمام اختبار حقيقي ،فهل ستحوّل الحراك الشعبي الراهن لمنعطف مصيري لصالحها ولصالح الشعب أم ستبقى مترددة وسلبية خوفا على مصالح البعض ممن أصبحوا في مراكز القرار أو يؤثروا على أصحاب القرار ؟ ونقول للأحزاب والنخب المترددة والمتخوفة من تداعيات الانتفاضة ،إن الشعب الفلسطيني منحهم أكثر من فرصة وصبر عليهم لعقود ،صبر على سياسة القائلين بالتسوية والمفاوضات لأكثر من عقدين من الزمن ، وصبر على سياسة القائلين بالمقاومة والجهاد والممارسين لها لأكثر من هذا الوقت ، وكانت النتيجة مزيدا من ضياع الأرض والشهداء والجرحى ،بالإضافة إلى الانقسام والحصار ، ولا يبدو في الأفق أي فرصة لا للتحرير ولا لتسوية عادلة ،وخصوصا بعد النتائج المدمرة للحرب على غزة وحديث الهدنة طويلة المدى ، وبعد محدودية مردود العمل الدبلوماسي والمراهنة على الشرعية الدولية فقط.
الانتفاضة فرصة نتمنى أن تهتبلها كل الأحزاب والنخب السياسية لإعادة الاعتبار للقضية الوطنية ولتصحيح المعادلة وتصحيح المسار ووضع الصراع في المنطقة في سياقه الصحيح ،شعب يناضل من أجل الحرية والاستقلال في مواجهة احتلال صهيوني مجرم ،كما أن الانتفاضة تمد حبل نجاة للأحزاب لتخرج من مأزقها . إنها انتفاضة تصحيح المسار بعد أن خرجت القضية الوطنية عن طريقها وانزلقت الأحزاب ،طواعية أو كرها، لمسارب ومسارات أساءت لها كما أساءت للشعب وقضيته الوطنية .
مَن يتخوف من انتفاضة الشعب ومَن يرى أن توقيت الانتفاضة غير مناسب نظرا للأحداث من حولنا ،عليه ، وخصوصا إن كان في موقع المسؤولية ،أن يقدم للشعب حلولا أخرى أو يمنحه مجرد أمل بغد واعد ، إن لم يكن بالتحرير والدولة المستقلة فعلى الأقل بوقف الاستيطان وتدنيس المقدسات وإنهاء الانقسام . لم يكن خيار الانتفاضة خيارا مريحا أو ترفا نضاليا ،بل كانت الانتفاضة ضرورة فرضتها ممارسات الاحتلال ،ولو لم تحدث الانتفاضة ربما سيطر اليهود على كامل المسجد الأقصى أو فرضوا مخططاتهم حول تقسمه زمانيا ومكانيا .
د/ إبراهيم أبراش