ينتقي كلماته بعناية فائقة كأنه يضع كل كلمة في الميزان قبل أن ينطق بها، يتحدث بهدوء كي يسمح للفكرة التي يحملها أن تنفذ إلى مستمعيه، يؤمن بأن الحوار لا يتطلب استفزاز الأحبال الصوتية بقدر ما يحتاج إلى الفكرة والحجة، يطلق كثيراً إبتسامته كأنه يريد لها أن تصافح المحيطين به، حتى عندما تغادره بفعل الواقع الذي يعيشه الوطن يستحضرها من عمق التاريخ بحادثة لها دلالاتها، يبحر في الماضي ليس من باب خلق هالة له بل ليستقي من تجارب الماضي ما يصلح لتوسيع مساحة الأمل، لم يكن يوماً من جوقة المطبلين والمصفقين، حافظ على تلك المكانة التي يضع أقدامه عليها بثبات دون أن تغريه مكانة المقربين وما تفرضه عليهم من لغة لم يحاول يوماً تعلم مفرداتها.
رحل اسماعيل ابو شمالة "ابو نضال" المنصر في تفاصيل الوطن، رحل بهدوء كعادته عندما يجمع أوراقه ويترك ساقيه المتعبتين تحملانه إلى فكرة لم تنضج بعد، لم يعتد أن يستسلم للوقت الذي يحاصرها، يأخذها معه ليكمل معها الابحار في تفاصيلها الدقيقة، لا يلبث أن يفتح نقاشاً حول مدخلاتها ومخرجاتها من جديد، لا تغريه الفكرة التي تبقى أسيرة الصالونات المغلقة، يدرك أن الفكرة الغير قابلة للتحول إلى ممارسة هي مجرد ترف لا تصلح سوى أن يزين صاحبها بها جدران بيته، دوماً ما كان يبحث عن الطريق الذي تسلكه الأفكار المبعثرة في الوطن، لعله كان يرقبها وهو يقطع الطريق الساحلي لقطاع غزة من شماله إلى جنوبه، تلك الرحلة التي اعتادها بعد أن أجبره الانقسام عن التخلي عن برنامج عمله اليومي.
عرفته عن قرب خلال عمله وكيلاً مساعداً لوزارة الحكم المحلي، استطاع أن يفرض إحترامه على الجميع، لم يمارس يوماً ما سطوة المنصب رغم الصلاحيات الواسعة التي أوكلت له، كان يحرص على التمسك بروح القانون دون أن يقع في شباك النصوص العقيمة، كان الملجأ لرؤساء البلديات حين يضيق بهم الأمر، لم يكن يدخر جهداً في المساعدة حتى اكتسب صفة الأخ الكبير عن جدارة، حين انتقل للعمل محافظاً لمحافظة شمال قطاع غزة فقد الحكم المحلي الكثير، هو من ذلك الفريق الذي يعطي المنصب أهمية لا من اولئك الذين يستقون أهميتهم من المقعد الذي يجلسون عليه.
رغم أنه من الرعيل الأول الذي عمل في مجال الإعلام إلا أن أضواءه لم تجذبه إليها، لم يكن من هواة إمتطاء مقعد له أمام الكاميرا، ظل بعيداً عن قوة جاذبيتها في الوقت الذي تهافت إليها الكثير، لعل قدرته الفائقة على الاستماع والإنصات استحوذت على القسط الأكبر من حياته، فهو وإن امتلك في حديثه قوة الحجة والمنطق التي تفرض الإستماع إليه، إلا أن استماعه الجيد دوماً ما كان له الغلبة.
لطالما تناول الماضي بلغة الجمع وليس بلغة الفرد التي يتغنى بها الكثير، لم يحاول يوماً ما أن ينسج بطولات ذاتيه في الوقت الذي كان بإستطاعته أن يفعل ذلك من واقع عايشه ويشهد له الكثير به، كنت وانا القريب منه تتملكني الدهشة عندما تعود إليه قامات وطنية كي تستقي منه تفاصيل لوحة من الماضي، كأنه الأرشيف المتنقل الذي حفظت لديه الكثير من أوراق البدايات، بقدر ما كان غيوراً على حركة فتح الذي التحق بها منذ سنواتها الأولى، بقدر ما كان الوطن بوصلته التي تتحكم في خطواته، رحل "أبو نضال" تاركاً سيرة عطرة لقامة وطنية لطالما صدحت بما تؤمن به دون خوف أو وجل.
بقلم/ د. أسامه الفرا