لا لـ"ثقافة الموت"

بقلم: علي الصالح


أوقفوا هذا العبث، اوقفوا هذا الجنون، احقنوا دماء شباب غزة الزكية،
لا لثقافة الموت، نعم لثقافة الحياة،. لا لشعار "كلما سقط شهيد ينبت ألف شهيد"، إنه يعكس ثقافة الموت، تلك التي يحاول أن يلصقها العدو بالشعب الفلسطيني.
الشعب الفلسطيني يحب الحياة، نعم يحب حياة الحرية والكرامة والاستقلال، حياة التحرر من التخلف والاحتلال والاستعمار وبناء الدولة العصرية الحديثة. 18 شابا في عمر الزهور استشهدوا والمئات أصيبوا على حدود قطاع غزة برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي، منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية، في مطلع أكتوبر الماضي والحبل جرار، لماذ؟
لماذا يسمح أصلا لهؤلاء الشباب الغاضب بالوصول إلى نقاط التماس لمواجهة مصيرهم المحتوم، الموت المؤكد، ماذا يضير جندي احتلالي عنصري دموي حاقد يحتمي وراء سياج إلكتروني وساتر ترابي وداخل دبابة او في برج مصفح، بعض الحجارة التي يقذفها باتجاه هؤلاء الشباب، و99٪ من هذه الحجارة إن لم يكن كلها لا تصل إلى جنود الاحتلال، الذين يجدون في إطلاق النار على اجساد هؤلاء الشباب الذين لا يمثلون خطرا عليهم من أي نوع تسلية يقتلون فيها ضجرهم، وبدون حسيب أو رقيب.
حرام، نعم حرام وألف حرام أن تهدر دماؤهم الغالية بلا ثمن. امنعوهم من إلقاء أنفسهم إلى التهلكة نعم التهلكة، وامنعوا هذا الشباب المفعم بالوطنية الراغب في التعبير، على هذا النحو، عن غضبه من دولة الاحتلال ووقوفه إلى جانب اشقائه في الضفة الغربية الذين يستفرد بهم جنود الاحتلال وقطعان مستوطنيه، من تقديم انفسهم كأهداف سهلة لقناصة الاحتلال، امنعوهم من الوصول إلى مواقع جيش الاحتلال على حدود غزة الشرقية كي لا يصبحوا صيدا سهلا لرصاص هؤلاء الجنود الحاقدين. نعم الغضب شديد من أفعال الاحتلال وجنوده وقطعان مستوطنيه، ولكن دماءهم أغلى من أن تهدر هكذا وبلا ثمن، ويجب توجيه هذا الغضب وهذه العواطف الوطنية الجياشة، لأغراض أخرى وأعمال ذات معنى وتأتي بالفائدة عليه وعلى شعبهم.
امنعوا هؤلاء الشباب حتى بالقوة إذا دعت الحاجة، من الوصول إلى حدود غزة ، نعم لمنع الشبان من الوصول إلى المناطق الحدودية فالحفاظ على أرواحهم واجب وطني يجب أن يتصدر الأولوية في مهام السلطة الأمنية القائمة في القطاع، وهذا الموقف سيكون أنبل وأشرف وأكثر وطنية من الخوف من اتهام قد يطلق من هذا الطرف أو ذاك، بالوقوف في وجه هؤلاء، بل أن الحفاظ على دماء هؤلاء الشباب أغلى وأهم ألف مرة من مزايدة، أو تسجيل هدف في إطار الصراعات الفئوية والفصائلية السائدة فلسطينيا. وأكرر أن الحفاظ على أرواح هؤلاء الشباب واجب وطني، أما غير ذلك فأقل ما يقال عنه إنه تفريط بحياة خيرة الشباب. ومن يصر على عدم منعهم فليرسل أبناءه وأحفاده إلى خط النار. إن ما يجري على حدود القطاع وتعريض الناس لرصاص وأحقاد جنود الاحتلال، لا يخدم انتفاضة الشعب الفلسطيني، بل يسارع إلى اخمادها واحباط المشاعر الوطنية.
أدعو أهل الحكمة والحريصين على حقن دماء هؤلاء الشباب، إلى مطالبة السلطة القائمة في القطاع، وهي هنا حركة حماس وأجهزتها الأمنية وفصائل أخرى كحركة الجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية وغيرها، بوقف هذا العبث بأرواح الشباب، إذ ليس من المعقول، بل ليس من المقبول ان يسمح بسفك دمائهم، ولماذا، لمجرد التعبير عن غضب، تضامنهم مع اهلهم في الضفة يكون بالحفاظ على حياتهم ومواصلة تحصيلهم العلمي حتى يكونوا اللبنات القوية للأسس التي ستبنى عليها الدولة الفلسطينية، وهي حتما آتية شاء من شاء وأبى من أبى.
قطاع غزة لا يحتاج إلى قوافل جديدة من الشهداء ولا مزيد من الأمهات الثكلى والزوجات الأرامل والاطفال اليتامى، قطاع غزة بحاجة ماسة إلى شباب أحياءً لبناء ما دمره الاحتلال واستعدادا للمعارك الحقيقية المقبلة مع دولة الاحتلال، وهي حتما مقبلة لا محالة.
ثمة أساليب عديدة اخرى غير الموت، يمكن التعبير من خلالها عن مشاعر الغضب، أو بالأحرى تفريغ شحنات الغضب الكامنة في النفوس، لا بد من توجيه طاقات هؤلاء الشباب واندفاعهم، نحو أهداف وطنية أسمى.
وقبل أي شيء وكل شيء، وحتى أقطع الطريق على المتربصين والمزايدين وأوفر عليهم تعب التشكيك، وقبل سحب السكاكين وشحذها وكيل الاتهامات في كل اتجاه، لا بد من التأكيد على أن المقاومة بجمــــيع أشكالها، وأكرر بجميع أشكالها، حق مشروع للشعب الفلسطيني توفره القوانين والشرائع الدولية، وضرورة أساسية وحتمية لإبقاء الأرض الفلسطينيّة مشتعلة تحت أقدام اعتى قوة احتلالية استعمارية بدعم وغطاء دوليين أو لنقل أمريكيين، ولكن استشهاد هؤلاء الشباب على هذا النحو ليس مقاومة بل هو انتحار مرفوض بكل معنى الكلمة.
لا بد ان تتواصل الانتفاضة/ المقاومة حتى "دحر الاحتلال ونيل الاستقلال" وطرد قطعان المستوطنين. وبغير المقاومة سيبقى الاحتلال واستيطانه جاثمين فوق صدور الفلسطينيين، هذه حقيقة بعدما تراجعت كل السبل الأخرى، لاسيما المفاوضات التي أصبحت بالفعل عبثية.
فهذه المقاومة هي التي جعلت وزير الخارجية الأمريكي يهرع مجددا إلى المنطقة، في محاولة لإخماد الانتفاضة ووأدها، وسيكون مصير جهوده الجديدة الفشل كما كان المصــــير في المرات السابقة.
الشعب الفلسطيني في معركته الحالية كما في العديد من المعارك السابقة، وحيد في الميدان، والاعتماد فيها سيكون على قدراته الذاتية وهي كثيرة وكبيرة، فلا يتوقع عونا من أحد لا من "الأشقاء العرب" ولا من الإخوة الاقليميين ولا من الأمريكيين ولا حتى الأصدقاء الأوروبيين، أما السلطة الفلسطينية فانها تقف عاجزة عن اتخاذ أي قرار، وتكتفي بإطلاق التهديدات الفارغة بفعل كذا وعمل كذا حتى أصبحت لا تصدق نفسها ناهيك عن شعبها وبقية العالم، لا سيما العدو المتربص.
الوضع العربي يتحدث عن نفسه، فهناك حالة انطواء إلى الداخل في كل بلد، لا يرى الاشقاء فيها أكثر من حدود بلدهم، أو بالاحرى ضيعتهم بفعل شلال الدم الذي تعيشه بعض الشعوب العربية في سوريا والعراق وليبيا واليمن بفعل "الربيع العربي" الذي تحول إلى شتاء قاتم.
وإقليميا دول المنطقة الكبرى تتورط في الاستقطاب الطائفي في المستنقع السوري، فاختارت ايران الاصطفاف الطائفي إلى جانب نظام الاسد في قتل وذبح السوريين، وتخوض تركيا حربا ضد الاكراد ودعما للتركمان، وربما إحياء لمطامع قديمة، على الأرض السورية لتعطي الحرب بعدا إثنيا. ودخل الروس بعد الامريكيين والفرنسيين وربما البريطانيين على الخط، بحجة ضرب تنظيم الدولة "داعش" مجهول الاب والام، للانتقام وممارسة بغائهم العسكري، والضحية في الاول والاخير هو الشعب السوري،
وأمريكيا أوصلت الولايات المتحدة بانحيازها السافر المفضوح إلى جانب الاحتلال والاستيطان، عملية السلام إلى طريق مسدود. ودفنت المفاوضات، على الأقل على المدى المنظور، فإدارة الرئيس باراك أوباما دخلت حالة البيات الشتوي في عامها الأخير في البيت الأبيض، بينما تدخل امريكا بمجملها نفق الانتخابات وفيه تستعر الحرب داخل الحزبين الرئيسين الديمقراطي والجمهوري كلا لاختيار مرشحه، وبينهما بعد الانتهاء من عملية الاختيار للفوز بمنصب الرئيس. وحتى بعد ظهور النتائج فإن العام الأول للرئيس الجديد يمضي بتحسس طريقه والعمل من أجل ضمان إعادة انتخابه ونحن هنا نتحدث عن عام 2018، أي بعد عام من المدة الزمنية التي حددتها السلطة الفلسطينية في مشروعها لإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. اما الدول الاوروبية لاسيما "الصديقة منها "مثل فرنسا التي كانت تعد العدة لطرح مشروع سياسي مبني على المشروع الفلسطيني لاقامة الدولة الفلسطينية في غضون فترة زمنية، فقد انشغلت بالمجزرة البشرية التي ارتكبها تنظيم الدولة، وما عادت تفكر الان بشيء سوى الانتقام لضحاياها، ودعت الدول الاخرى إلى نسيان قضاياها الوطنية والتركيز على محاربة الإرهاب، وهو فرصة كانت تسعى اليه الحكومة الإسرائيلية الحالية بمركباتها الحزبية غير المؤهلة للسلام وغير المعنية به أصلا.
ونختم بـ لا لثقافة الموت نعم للمقاومة بجميع أشكالها نعم لإنهاء الانقسام العبثي الذي لا يخدم الا القائمين عليه، ولا للمماطلة والتسويف في إنجاز هذا المطلب الوطني بامتياز. لا لاستئناف المفاوضات العبثية ولا لكيري ومحاولته. ولا للاستسلام لضغوطه وتهديداته بوقف مساعدات بلاده، فإلى الجحيم هو ومساعداته إن كان الغرض منها ترسيخ الاحتلال والاستيطان.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"

علي الصالح