شبهنا مرارا وتكرار سلطتنا الفلسطينية بسلطة بلدية. وسميناها بلدية أوسلو على أساس أنها لا تتمتع بسلطة على الأرض بل على السكان فقط، وهي تشرف على التعليم والصحة وخدمات البلديات دون أن تتطور إلى سلطة وطنية بلا فساد ولا محسوبية. إن سلطتنا هي سلطة مجموعة من الأشخاص المنتفعين من امتيازات المنظمة وامتيازات السلطة معاً. وهم مجموعة من الكهول الذي عفا على عقولهم الزمن. فلم يعد لديهم قدرة على الإبداع. هم أصبحوا يعيشون على الماضي في حديثهم، فنجد حديثهم كله عن نضالهم قبل أوسلو في بيروت والشتات. لم يعد لديهم قدرة على فهم الحاضر لأن الحاضر بالنسبة لهم هو استحقاق وطني وليس مشروع نضالي مستمر. توقف عندهم الزمن على بوابات أوسلو. فهناك منهم من صنعوا أوسلو وتفاخروا بذلك الإنجاز من خلال كتب سيرة ذاتية أصدروها في حينه في جزء أو أجزاء يبرزون فيها قدرتهم التفاوضية التي شهد لهم فيها العدو. دون أن يدركوا أنهم لم يكونوا مفاوضين بل موقعين. لأن قضايا الثوابت الوطنية وقضايا المشروع الوطني الأساسية مثل القدس والحدود واللاجئين وغيرها قد تركت كقضايا حل نهائي. ولذلك فإن مفاوضاتهم لم تتعدى سلطة حكم ذاتي هزيل. ولذلك فإن هناك من صنعوا أوسلو ويتفاخرون بذلك مثل أبو مازن وأبو علاء. وهناك من صنعتهم أوسلو وأصبحوا ينعمون بامتيازاتها كوزراء ومسؤولين عن الإذاعة والتلفزيون مثل ياسر عبد ربه وغيرهم الذين تقلدوا المناصب في سلطة الحكم الذاتي. وتنعموا بامتيازات ومناصب ووزارات وجوازات دبلوماسية في أي بي (VIP). واستولوا على الأراضي الحكومية وبنوا الفلل والعمارات مقابل وبيعهم للوطن بثمن بخس وهو بلدية أوسلو. هؤلاء يحاولون التنصل اليوم من أوسلو بعد أن تم إخراجهم من مناصبهم، وتم تجريدهم من امتيازاتهم التي نعموا بها. وبدأ هؤلاء يهاجمون أوسلو وكأنهم اكتشفوا ذلك فجأة. هل كانت على عيونهم غشاوة وهم يطبلون ويزمرون لأوسلو في برامج التلفزيون التي يشرفون عليها ويحددون نبض إيقاعها. هل الامتيازات قد أخرجتهم من الوطنية وحلقوا في أحلام سنغافورة ... الخ. ثم استردوا وطنيتهم ثانية بعد أن اخرجوا من مناصبهم وأصبحوا لا يمثلون سوى أنفسهم..
قلنا بلدية أوسلو وأغضب ذلك منا الصديق والقريب وحتى البعيد. واتهمونا بالتهجم على مشروع سياسي تخوضه فتح. وأن علينا السمع والطاعة لأولي الأمر. وقلنا مرارا أن أوسلو فخ استراتيجي إسرائيلي يهدف لإطالة أمد الاحتلال ولكن ضمن شكل جديد. إن السلطة الفلسطينية هي ذر للرماد في العيون، فكثير من دول العالم يعتقد أن الشعب الفلسطيني أصبح له سلطته، وله برلمان ورئيس. وكأن المشكلة الفلسطينية قد حلت. ولم يدرك هؤلاء أن ما حدث ويحدث هو احتلال خمس نجوم. احتلال تخلص من إدارة بلدية السكان أي خدماتهم واحتياجاتهم القذرة، فيما هو ينهش الأرض ويقيم المستوطنات، ويضخ بها مستوطنين جدد، ويهود القدس. ولذلك فإن السلطة ليست سوى بلدية عليها الإشراف على جمع قمامة السكان وليس حمل مشروعهم الوطني.
وقد صرح أمس السيد تسير خالد عضو اللجنة التنفيذية في مقابلة في صحيفة دنيا الوطن الألكترونية واسعة الانتشار أن السلطة الفلسطينية ليست سوى سلطة بلديات، وأن بلدية تل ابيب لها صلاحيات أكبر من صلاحيات السلطة الفلسطينية. وقد دفعنا ذلك للضحك كثيرا بانه استخدم نفس المصطلح الذي مللنا من ترديده وتكراره في مقالاتنا وندواتنا وأحاديثنا التلفزيونية. هل اكتشف السياسي بعد زمن ما تحدث به الأكاديمي منذ سنوات بل وسنوات طويلة. بالتأكيد هناك فجوة بين السياسي والأكاديمي أو المثقف. فهنا لا يسمع السياسي للأكاديمي وللمثقف. يطبخ لوحدة حتى لو شاطت طبخته. فهو يرى في الشعب الفلسطيني وتضحياته ونضالاته مطبخ يجرب به. فهذه طبخة لذيذة وهذه طبخة غير لذيذة. وعلى أن أقول بصراحة إن كل طبخاتهم السياسية هي طبخات غير مهضومة وغير لذيذة. وأن تجاربهم في الشعب الفلسطيني قد فشلت. وأنهم لا يعترفون بذلك إلا متأخرا ومتأخرا جداً. ولذلك نجد قراءات نقدية ممن تربعوا على عرش صناعة القرار مثل ياسر عبد ربه وتيسير خالد ولكن متى؟ أليس ذلك بعد فوات الأوان، أم بعد تضحيات كبيرة كانت لشعبنا وكان الحصاد مراً. علينا أن نعترف بان سلطتنا ليست أكثر من سلطة بلدية بل أقل من ذلك كثيراً، وعلينا أن نعترف بان سلطتنا ليست سوى سلطة رواتب. وأن من حاول اللحاق بالركب قد وصل لنفس النتيجة وها هو يوزع الوطن رواتب وأراضي. إن أوسلو قد استنفذت مرحلتها وعلينا أن نقوم بعملية تقييم نقدية لما لها وما عليها. وأن يختار الشعب الفلسطيني قيادة جديدة تكون لها رؤية واستراتيجية وبرنامج بدلا من قيادة عفا عليها الزمن. وهي فقط تدير الأمور لكسب الوقت حتى وفاتها الطبيعة من رب السماوات والأرض. هي قيادة هرمة فقدت كل مؤهلات القيادة ولم يعد لها قدرة على الإبداع أو قيادة المشروع الوطني. فهي حتى الآن لم تتعاط مع الهبة الشعبية كما يجب، فهي من كهولتها بطيئة لا تتوائم مع سخونة الحدث وسرعته، وكيفية تطويره والنهوض به ضمن أهداف محددة، وخطاب سياسي ملهم وقوي. ولذلك علينا أن نعترف أولاً أن بلدية أوسلو قد وصلت لطريقها المسدود، وأن علينا أن نختار طريق جديد له قيادته ورؤيته وبرنامجه
بقلم أ. د. خالد محمد صافي