بعيداً عن السياسة المباشرة في تناول الأفلام الفلسطينية لقضايا سياسية، وعلى الرغم من أن فيلم " أبرياء ولكن" يتناول قضية اجتماعية إلا أنها قضية نتجت عن ضع سياسي بدأ منذ بداية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بمحاولة الإسرائيليين تجنيد جواسيس فلسطينيين، ومجابهة ذلك من قبل التنظيمات الفلسطينية بمحاولة الكشف عن الجاسوس وقتله مما أدى إلى خلق قضية اجتماعية خطيرة، تسببت في انعزال تلك الأسر عن المجتمع وعدم اقتراب المجتمع من هذه الأسر بسبب أن رب الأسرة أو أحد أفرادها خائن للوطن، وربما أيضاً للابتعاد عن الشبهات، خاصة في ظل تواصل الصراع.
قضية اجتماعية مهمة جداً، تحتاج جرأة لطرحها، تتناولها المخرجة المبدعة حنين كلاب عن قصة للكاتب محمود عفانة في فيلمها الروائي القصير، لتجسد بشكل قوي وجميل أحداث فيلمها على مدار 20 دقيقة، بدأ من قوة السيناريو وتسلسل مَشاهدة والموسيقى المختارة للمَشاهد والتركيز على أداء الممثلين خاصة بطلة الفيلم التي لعبت دور قوي أقنعتنا خلاله بأنها تعيش ظلم المجتمع، وكذلك بطل الفيلم أحمد مسلم، وكاتب القصة الذي قام بدور والد أحمد والذي نلمس أيضاً بأدائه أنه يعيش الحكاية.
مع بداية الفيلم نشاهد غزة وجامعة الأزهر وبطلة الفيلم جنان قويدر والتي تقوم بدور الطالبة شريفه عبدالله، تجلس مع صديقتها سناء في الجامعة، يتبادلن أطراف الحديث، مما يثير استغرب زميلاتها اللواتي تعودن على رؤيتها وحيدة، منطوية ومنغلقة على نفسها، تدعوها سناء على عيد ميلادها، لكنها ترفض، نلمس خوف وانطواء بطلة الفيلم ليظهر منذ البدايات الأولى للفيلم بان هناك مشكلة ما.
تنتقل الكاميرا لمنزل سناء لنشاهد والدها ووالدتها التي تطلب من زوجها أنها ترغب في زواج أبنها بطل الفيلم أحمد مسلم والذي يقوم بدور أحمد ويبدي الأب موافقته في البدء بالبحث عن عروس لأبنهما.
نشاهد أحمد يحضر بسيارته للجامعة لنقل أخته سناء التي تطلب من شريفه أن تأخذها معهم في طريقهم لمنزلها، توافق شريف بعد إصرار سناء وتصعد معها في سيارة أحمد، ومنذ بداية الطريق وحتى نهايته نلمس أعجاب أحمد بشريفة والالتقاء بينهما من خلال موسيقى سيرة الحب، والتي امتدت على طول الطريق.
تصل شريفه إلى منزلها، تخبر والدتها بأنها عادت للبيت مع صديقتها سناء بسيارة أخوها أحمد، تفاجـأت والدتها، لكن شريفه أكدت لها بأن لا تخاف لأنها نزلت قبل البيت ولم يعرفوا من هي وأين سكنها، تطلب الوالدة من شريفه بأن لا تكرر ذلك رغبة منها بأن يكونوا بعيدين عن المجتمع وبان لا يعرف عنهم أحد أية شيئ، وهنا يتضح أنهم يخفون ويختفون من حدث ما تعرضوا له.
يصل أحمد وسناء منزلهم، تخبره والدته بأنها تود أن تفرح به وأنها ستبحث له عن عروسه، لكنه يصارحها برغبته في الزواج من صديقة أخته ويبلغها اسمها شريفة عبدالله.
يذهب أحمد للجامعة ويلتقي بشريفه ويطلب منها بأنه بحاجة للحديث معها لمدة خمسة دقائق، ترفض شريفه ويقنعها بأنه يحتاجها في موضوع مهم، توافق شريفه على مضض، يبلغها أنه أختارها لتكون زوجة له، وأنه أرسل أهله لخطبتها، نلمس ارتباك شريفه والصراع الداخلي الذي تعيشه ما بين حقها في الزواج وبين ماضيها الذي سينكشف، ترد عليه بأن ما قام به مصيبه وتنسحب من المكان.
تبدأ كالعادة عملية البحث والتحري عن العروس وأهلها ليكتشفوا بأن شريفة تتمتع بأخلاق عالية لكن والدها قتل بسبب اتهامه بالتجسس لصالح الإسرائيليين.
تنتقل الكاميرا لبيت والد أحمد الذي يصرخ في زوجته وأبنته: " جاسوس والله يا فرحتنا، بدي أناسب جواسيس أخر العمر، بعدين أبنك مبعرفش الكلام هذا من أول؟ وأنت صحبيتها مبتعرفيش؟ الزواج هذا ما راح يتم"، تأكد له ابنته سناء بأنها لم تكن تعرف، تطالبه الأم بأن يهدأ وتبلغه أن أبنه يحبها، يعود أحمد للبيت بعد أن التقى شريفه، يسمع صراخ والده، يتساءل عن ما حدث، يبلغه والده بأن هذا الزواج لن يتم.
ينتقل المشهد داخل بيت شريفه التي ينتابها القلق، تتنقل في غرفتها ما بين الأمل وفقدانه، ما بين فرحتها بشاب يود التقدم لها لخطبتها وبين أن ينكشف سرها، تدخل والدتها إلى غرفتها لتطمئن عليها وتسألها عن حالها، تصارحها شريفه: " يامه أنا بعرف شاب اسمه أحمد بيكون أخوها لسناء صحبيتي، هو يامه بده اياتي وبده يخطبني وبده يبعت أهله كمان ييجوا يخطبوني بس أنا يامه أنا خايفه يعرف قصة أبوي وأنه أبوي أنقتل لأنه عميل"، ترد والدتها: " أبوك كان مظلوم يا بنتي والله كان مظلوم وبريئ"، تجهش شريفه بالبكاء: " يامه شو الفايده الناس ما بتعرف هيك، أبوي بالنسبة للناس هو خاين وأنا بنت عميل، أبرياء وبندفع الثمن"، تحضن والدتها وتبكي على صوت موال حزين: " جرايم يا زمن، بريئ وبيدفع الثمن، والظالم يزيد في ظلمه وفرحة صبية تندفن".
لا زال الجدل بين الوالد وأحمد الذي يتنكر لنظرة المجتمع ويعتبرها نظرة متخلفة ظالمة: " شو ذنب البنت، الوالد: " وإحنا شو ذنبنا أول ما راح يعايرنا غير قرايبنا، والناس شو بكره يقولوا لأولادك، جدكوا كان خاين عميل، أنت هيك راح تظلم أولادك وراح تظلم نفسك".
يطلب أحمد من والده الجلوس والهدوء ويقول له " بأن الله يقول في كتابه ولا تزر وازرة وزر أخرى، ما في حدا بيتحمل ذنب الثاني".
يرد عليه والده: " يا بني أفهم الناس ظلمه مبيرحموش، وبعدين أنت بس شاور لي على أية بنت، هو اللي خلقها مخلقش غيرها"، يرفض أحمد وجهة نظر والده ويعتبر بأن هذا المجتمع ظالم ومتخلف ولا يجب أن تحاسب البنت على ذنب لم تقترفه، وبأن ذلك حرام لأننا مسلمين، وأنه لا يجب أن يظلم كما يفعل الآخرين، وينسحب برفضه الزواج نهائيا ويخرج من البيت.
تتحول أجواء البيت من فرح بالزواج إلى حزن يطفئ تلك الفرحة ويخلق صراع ما بين رغبة أبنهما في حلمه بفتاة أحلامه وبين ماضيها الذي يلاحقها وسيلاحقهم في حال تم الزواج، لكن أم أحمد خرجت عن صمتها: " والله يا حج أنه معاه حق شو ذنبها هالمسكينة"، ينظر لها ويصارحها ويصارح نفسه:" والله أنا عارف أنها مظلومة هالبنت ولكن أحنا كمان شو ذنبنا نقعد في لسانات الناس"، تذكره أم أحمد بحادثة أبو صلاح الذي قتل بتهمة التجسس وبعد عشر سنوات ظهرت براءته.
يتجهان للبحر ليعيشان ذكرياتهما معاً وربما ليبتعدا عن مجتمع لا يعرف إلا لغة الظلم، يستعيد كل منهما ذكرياته مع الآخر، يلتقي أحمد وشريفة لتصبح الشمس بينهما في وقت الغروب، يتأمل كلاهما الآخر، تبكي شريفة ويصاحب بكائها موسيقى حزينة، تروي له الحكاية: " من أول لحظه كنت بدي احكي لك، بس خفت، والله العظيم خفت، خفت أخسر الإنسان الوحيد اللي بيحبني وبيخاف علي، طبيعي أني أخاف، أمي قالت لي أنه مظلوم وأنقتل ظلم وأنا بصدق أمي، بس الناس والمجتمع مبيرحموش، وهذا كان السبب أنه عشنا بعيد عن أهلنا، حتى قرايبنا ما حدا تعرف علينا، كنت وحيده لغاية أنت ما دخلت حياتي، وغيرتها، بس خفت وطبيعي أني أخاف، وليش ما أخاف، وأيش بدي أحكي لك أنه أبوي... أنه أبوي، مع أنه مظلوم وأنقتل ظلم، بس حتى لو كان أبوي عميل، أيش ذنبي أنا، كل الناس اللي زينا هيك، ليش بيكونوا بقفص الاتهام، وفي ناس كثير زينا حاسه أنه هم أبرياء، بس دايما في لكن.. بس دايما في لكن..
تقنعنا شريفه بآدائها وبقوة كلماتها وبالظلم الذي وقع عليها وعلى الكثير ممن عاشوا حالتها، وتقصد في صراخها بإعادتها لجملة دائما في لكن، أن المجتمع يمجد بأخلاقها وبأخلاق مثيلاتها ولكن يتم محاسبتهن على ماضيهن الذي لا ذنب لهما به، يرد أحمد عليها بالآسف، وبأنه فرد من المجتمع، ويفاجئها: " لهيك لا يمكن أني أستغني عنك.. أنا بحبك يا شريفه"... يبتسم كلاهما للأخر ويذهبان معا أيضاً باتجاه البحر، وينتهي الفيلم.
ربما كان الأجدر بأن لا يذهبا باتجاه البحر، وكأنهما يحاولان الابتعاد عن المجتمع، بل بالسير على الشاطئ والخروج عكس البحر لمواجهة المجتمع، لتكتمل الرسالة الهامة للفيلم بدق الجرس بأن هناك نموذجاً لحالة كسرت الحاجز، وبأن هناك مشكلة اجتماعية تستحق لفت النظر إليها، وعلى الجميع المشاركة في دمج تلك العائلات والتعامل معها بشكل طبيعي، لخلق حالة من النسيج الاجتماعي السليم.
طوبا لكل طاقم العمل الذي أدى دوره بتقديم رسالة مهمة وخاصة المخرجة حنين كلاب التي استطاعت أن تحصل على أداء قوي لبعض الممثلين على الرغم من أنهم يقفون أمام الشاشة للمرة الأولى وكاتب القصة محمود عفانه ومنتج الفيلم والمشرف العام فتحي عمر.
بقلم: د. عزالدين شلح