رغم أن دول أوروبا جميعها، وعلى رأسها فرنسا وبلجيكا التي يوجد فيها مراكز قيادة وإدارة دول الاتحاد الأوروبي، مشغولة بالعمليات الإرهابية التي اجتاحتها مؤخراً، وتسببت في قتل العشرات من المواطنين الأوروبيين، ونشرت الرعب في أنحائها، وأثرت كثيراً على الجاليات الإسلامية فيها، وعلى حركة اللجوء العربي الأخيرة إليها، إلا أن هذه الأحداث وما سبقها وما رافقها، وما ترتب عليها من إجراءاتٍ أمنيةٍ قاسية، وسياساتٍ جديدة ومتشددة، طالت المقيمين والوافدين العرب والمسلمين وغيرهم، إلا أن هذه الأحداث لم تستطع أن تخطف الأضواء عن الانتفاضة الفلسطينية، ولم تتمكن من جرف العالم إليها، واندفاعه نحوها رغم خطورتها ودمويتها، ولم تستطع أن تجعل منها مركزاً للاهتمام والرعاية على حساب ما يدور في فلسطين المحتلة.
فقد بقيت الانتفاضة الفلسطينية هي القضية الأكثر سخونة والأشد تأثيراً، فهي تتصدر الأحداث، وتتقدم على كل الملفات، وتسبق الأخبار، وتفرض حضورها على الجميع، لهذا فقد كان قرارُ دول الاتحاد الأوروبي بتمييز مختلف البضائع المستوردة من المستوطنات الإسرائيلية، ووضع لاصقٍ عليها، وإشارةٍ تدل على منشئها وتبين مصدرها، توطئةً لاتخاذ قراراتٍ حاسمةٍ بشأنها، أحد أهم تداعيات الانتفاضة الفلسطينية، بحيث يصعب تفسير القرار بعيداً عما يجري في الأرض المحتلة على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي تعتدي وتقتل، وتخرب وتدمر، فالانتفاضة الفلسطينية هي التي فرضته وحركته، وهي التي عجلت به ودفعت باتجاه تنفيذه.
هذا القرار الهام والخطير، الذي يعتبر سابقة ودلالة، وقاعدةً للانطلاق في المستقبل نحو غيره، وأساساً لفهمٍ أوروبيٍ موحدٍ تجاه الفلسطينيين وقضيتهم، ليس بالقرار العادي الذي يجوز المرور عليه بسهولةٍ، ولا بالقرار السهل الذي لا يوجب التوقف عنده، ولا بالقرار الإداري الذي يخلو من التبعات والانعكاسات السياسية والاقتصادية، بل هو قرارٌ له ما بعده، وقد أغضب الإسرائيليين واستفزهم، واستنفرهم وأخرجهم عن طورهم، ودفع عقلاءهم قبل حكمائهم للثورة والغضب، والاعتراض والاستنكار، رفضاً للقرار واستهجاناً له.
اتهم الإسرائيليون بغضبٍ شديدٍ الحكومات الأوروبية بممارسة التمييز العنصري، والانحياز إلى الفلسطينيين، واتباع سياسة عنصرية مقصودة ضدهم، وأنها بهذا القرار تمارس العقاب الجماعي دون تمييز بحق مواطنين يتعبون في كسب رزقهم، ويعملون كثيراً في عملهم، ويكدون ويجتهدون، ويتفانون في اتباع أفضل أساليب الإنتاج والتصنيع لتكون لهم الأفضلية في الأسواق التنافسية، ونيل مختلف شهادات الجودة الدولية والأوزو العالمية، التي تجعل من منتجاتهم بضائع تنافسية بقيمتها ومواصفاتها، وليس بمنشئها وبمن أنتجها، في الوقت الذي كانت تأمل فيه من دول الاتحاد الأوروبي أن تزيد مساعداتها للمستوطنات، وأن تقف معهم في ظل الأزمات الاقتصادية الكونية التي تعصف بالمنطقة كلها.
وعلى الفور دعا مسؤولون إسرائيليون، برلمانيون وإعلاميون وعسكريون وأمنيون متقاعدون وغيرهم، الحكومة الإسرائيلية إلى تعليق دور دول الاتحاد الأوروبي في عملية السلام، وعدم القبول بواسطتها، ولا الموافقة على الجهود التي تبذلها، واعتبارها طرفاً غير نزيهٍ ولا مقبول، وناشدوا حكومتهم فرض عقوباتٍ على مساعي ومساهمات دول الاتحاد الأوروبي في الأراضي الفلسطينية، وعدم تسهيل تقديمها مساعداتٍ ومعوناتٍ للسلطة الفلسطينية ومناطقها، أو فرض ضرائب ورسوم على ما تقدمه من مساعداتٍ وخدمات، والتوقف عن منحها ضماناتٍ وتأكيداتٍ بحماية مصالحهم، وضمان أمنهم في المناطق الفلسطينية، وأنهم ليسوا على استعداد لمنحهم حصانةً في البلاد لتحميهم من الأخطار المتوقعة، في الوقت الذي يحاربونهم فيه، ويقدمون المساعدة لعدوهم، الذي يقتلهم ويعتدي عليهم كل يومٍ طعناً ودهساً وقنصاً.
ربما أن القرار خطوةٌ عاديةٌ وإجراءٌ بسيطٌ، وإن جاء متأخراً وغير متوقعٍ، وقد لا يكون موجعاً مادياً ومؤثراً اقتصادياً، لكنه بالتأكيد مؤذٍ سياسياً، وسيكون له آثار سلبية عليهم، وقد يوحدهم ضد دول الاتحاد الأوروبي، وقد يمارسون عليهم الدور القديم في الدلال والشكوى والابتزاز، لدفعهم للتراجع عن القرار والتخلي عن هذه السياسة، والإحساس بخطورتها عليهم، وأنها تضر بهم وتكشف ظهرهم وتعرضهم لمزيدٍ من الإجراءات العقابية الأخرى، كون هذا القرار سيكون سابقةً وقاعدة انطلاقٍ جديدةٍ، وبداية مرحلة في فرض عقوباتٍ مؤلمة من معسكر الأصدقاء وتجمع الحلفاء، خاصةً أنه يأتي في ظل التحولات الجذرية التي تفرضها الانتفاضة الفلسطينية الواعدة، وهذا ما يخيفهم أكثر من أن يكون هذا القرار ممهداً لقراراتٍ أخرى وخطواتٍ أكثر جديةٍ مما قد تفرضها الانتفاضة عليهم.
قد يلتف الإسرائيليون على القرار وقد يحاولون تفريغه من مضمونه، وقد يزورون الوقائع ويزيفون الوثائق والمستندات، ويعيدون تصدير منتجاتهم بشكلٍ آخر، إرضاءً للمستوطنين وتجنباً للخسارة، لكن القرار يبقى خطوة سياسية بامتيازٍ، وهي ليست عبثة ولا مزاجية، وقرارها ليس صادراً عن مسؤولٍ اقتصادي أو مشرفٍ إنساني أو اجتماعي، إنما صدر عن القيادة السياسية للاتحاد التي تعرف ماذا تريد وماذا تقرر، وقرارها يدل بالتأكيد على شكلٍ من أشكال العقوبة وعدم الرضا، مهما حاول الإسرائيليون تجاوزها أو سعى الأوروبيون للتخفيف منها، والإسرائيليون الغاضبون أكثر من يعرف جدية وخطورة هذا القرار.
لولا الانتفاضة الفلسطينية الغضة الشابة، التي تروي عروق مسيرتها بالدم، وتغذي حركتها بروح الشباب، وتثري انطلاقتها بالشهداء الذين يتتابعون في سلسلةٍ ذهبيةٍ وضاءةٍ، ما كان للأوروبيين أن يلتفتوا إلى الشعب الفلسطيني وقضيته، ولا أن يغضبوا من العدو المحتل ويعاقبوه وإن كان حليفهم وصديقهم، وهم المجروحين بما تعرضوا لها، والمصدومين بما فوجئوا به من تفجيراتٍ واعتداءاتٍ، ولكنها الانتفاضة المباركة الخطى، والطيبة الثمر، تأبى إلا أن تكون ثمارها طيبة، وجناها ناضجاً، وزرعها يانعاً يؤتي أكله كل حينٍ خيراً وبراً، وعما قريبٍ حريةً ونصراً، ودولةً ووطناً.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 30/11/2015
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]