أن تكتب عن فتاة تحلم بأن تكون شريكة حياتك، فهذا سهل. وأن تكتب عن سيدة تُحبها لأنها جميلة، وتعشقها لأنك تحبها فتراها جميلة، فهذا أيضا ليس بالأمر الصعب. وحينما تقرر الكتابة في هذا الشأن ستجد في قاموس اللغة العربية من الحروف والمعاني ما يتناسب وتلك الفتاة الجميلة، وما يليق بهذه السيدة التي أحببتها حد العشق وسكنت قلبك ولم يفارقك صوتها، وستجد في روائع الشعر العربي أجمل الأبيات والقصائد. أما أن تكتب عن ثائرة في وجه الظلم منذ نعومة أظافرها، وصرخت في وجه الاحتلال منذ صغرها، وفدائية امتشقت السلاح لتدافع عن فلسطين وكرامة شعبها منذ أن كانت فتاة يافعة، وعن أسيرة محررة ذاقت مرارة السجن وقسوة السجان لسنوات طوال وهي في ريعان شبابها. عن امرأة بألف رجل، ومناضلة استثنائية، ناضلت ومازالت تناضل، وضحت وما زالت تضحي لأجل الوطن والقضية وحق العودة. هنا تكمن الصعوبة، بل ولربما من المستحيل أن تجد في قاموس اللغة من الكلمات ما تنصفها وتوصف حكايتها وسيرة حياتها. إنها حكاية وطن ومسيرة شعب في امرأة اسمها "كفاح". ولها في اسمها نصيب كبير.
كم جميل أن تكتب عن ثائرة فلسطينية اسمها "كفاح عفيفي"، عن امرأة عظيمة تسكن القلب والوجدان، وتحمل اسم حُفر في ذاكرة الوطن، ونُقشت حروفه في كتاب تاريخ الثورة المعاصر. وجميل أيضا أن تشعر بالرضا والسعادة وأنت تعيد البسمة لتلك الثائرة المضطهدة بعد أن تشعر هي بإنصافها حتى وان كان ذلك بقليل من الكلمات خطت بقلم كاتب متواضع مثلي، وأسير ذاق مرارة السجن مثلها.
ولدت "كفاح صبحي عفيفي" في السابع والعشرين من تشرين أول/أكتوبر عام 1970 في مخيم شاتيلا في العاصمة اللبنانية "بيروت" حيث كانت تقطن أسرتها، وتنحدر من عائلة فلسطينية محافظة ومعروفة بانتمائها لوطنها وحبها لأرضها.
لقد بدأت حياة أسرتها في قرية ياجور المجاورة لحيفا في الشمال الفلسطيني، وتفاقمت معاناتها وازدادت ألما ومأساة منذ نكبة1948 والهجرة القسرية الى مخيمات اللجوء والشتات وحط الرحال بهم في مخيم شاتيلا في لبنان، وكان والدها شديد الانتماء للوطن الفلسطيني والعودة لأرضه والعيش فوق ترابه. فالوطن بالنسبة له هو الهوية الفلسطينية والحضارية والثقافية والوطنية، وهو العزة والكرامة، وهو الإرث الذي ورثه عن آبائه وأجداده. فكان حريصاً على تربية أولاده على حبه والذود بالنفس من أجله. ومن هنا تعلمت "كفاح" واخوانها معنى الانتماء للوطن وحب النضال من أجل الوطن، فنشأوا وتربوا على هذه الثقافة التي غُرست في نفوسهم، وتَشبثت فيهم كما تَتشبث جذور شجرة الزيتون عميقاً بالأرض. لذا فلم يكن غريباً أن تُقَدم الأسرة ثلاثة من أفرادها شهداء فكان أولهم "يوسف" الذي استشهد عام 1985، ومن ثم التحق به "خالد" عام 1987، ولم يكن "عثمان" آخرهم عام 1988. إذ التحق بهم شهيدا رب الأسرة "صبحي" وكنيته "أبو محمد" عام 1995. فيما الابن البكر "محمد" تعرض للأسر وذاق مرارة السجان عام 1986.
أما "كفاح" تلك الفتاة اليافعة الجميلة، التي قدر لها أن تحيا بين أزقة المخيم وشوارعه الضيقة، وتنام على أصوات المدافع وتصحو على رائحة البارود، وترى الموت بعينيها مرات عدة وتنجو منه بأعجوبة لتبقى على قيد الحياة تقاوم وتقاوم.
كانت طفلة بريئة تحفظ "فلسطين وخارطتها الجغرافية" التي كان قد علمها إياها والدها وتحلم بالعودة إليها، وأن تلهو وتلعب وتحيا كسائر أطفال العالم بحرية فوق ترابها، وأن تعيش بهدوء وسلام بين أزقة مخيم اللجوء والشتات لحين تحقيق حلمها وحلم ملايين المشردين بالعودة، إلا أن الاحتلال وأعوانه أرادوا للحياة شكل آخر، فعلموها مفردات الموت والقتل والسجن بعدما كانت قد حفظت مصطلحات اللجوء والتشرد والعودة، وحفروا في ذاكرتها صور الشهداء والقبور الجماعية والأشلاء المتناثرة والدماء التي أغرقت شوارع وأزقة المخيم، صور لجرائم بشعة ارتكبت بحق أهلها وجيرانها، بحق أطفال ونساء المخيم، انها واحدة من أبشع مجازر القرن العشرين، مجزرة صبرا وشاتيلا.
لم تكن حينها قد تجاوزت الثانية عشر من عمرها. إلّا أن المشاهد لم تُنس ولم يستطع غبار الزمن إخفاءها أو طمس معالمها، فبقيت راسخة في ذهنها وشكَّلت دافعا نحو الاستمرار في مسيرة نضالها والانتقام من أعدائها وقتلة أحبتها وجيرانها الأبرياء. ولم تكن الصور تلك هي الوحيدة التي رسخت في ذهنها، إذ تلاها صور مريرة، ومشاهد صادمة ومروعة لأحداث فظيعة واكبت حرب المخيمات وما لحق بها وبقاطنيها من قتل ودمار.
أدركت "كفاح" أن الرد على الاحتلال وأعوانه، وتحقيق حلمها وحلم شعبها بتحرير فلسطين والعودة للعيش فوق ترابها لا يتأتى بالدعاء فحسب، وانما المقاومة هي السبيل الأمثل للانتقام واسترداد الأرض وانتزاع الحقوق المسلوبة، وكما قال الشاعر المصري أحمد شوقي "وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا". فالتحقت أواسط الثمانينات بالثورة الفلسطينية المسلحة من خلال حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وأقسمت أن تسير على خطى الشهيدة دلال المغربي. فأدارت ظهرها لمتاع الحياة، ولم تلحق بمن اختاروا الصالونات للثرثرة، فلجأت إلى ساحات النضال، لتنتقم لقرية أسرتها المهجرة ولأرض أجدادها المسلوبة، و لجيرانها وأحبتها الذين سقطوا شهداء في المخيم، فاشتد عودها صلابة، وازدادت إصرارا على المضي قدماً في مسيرة العطاء والنضال، وتميزت شخصيتها بالقوة. فانخرطت في دورات عسكرية بجانب الرجل وشاركته في العمليات الفدائية وهي على يقين أن مصيرها المحتوم إما النصر أو الاستشهاد أو الاعتقال. فلم يتحقق نصرها ومازال الاحتلال جاثم فوق أرض أجدادها، ولم تنل شرف الشهادة فوق تراب فلسطين كما كانت تبتغي، لكنها وقعت في الأسر وزج بها في ظلمات سجون الاحتلال وأعوانه.
اعتقلت "كفاح" في 24 تشرين اول عام 1988 في منطقة كفر كلا في جنوب لبنان وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وزج بها في سجن الخيام في الجنوب اللبناني، اثر محاولتها اجتياز الحدود اللبنانية –الفلسطينية والوصول إلى الشمال الفلسطيني وتنفيذ عملية فدائية هناك واسر جنود إسرائيليين ومبادلتهم بأسرى فلسطينيين. واستمر احتجازها في ذاك السجن، سيء الصيت والسمعة، سبع سنوات متواصلة ذاقت خلالها أشد أنواع القهر والظلم، وتعرضت لصنوف مختلفة من العذاب الجسدي والنفسي التي لا يمكن وصفها بالكلمات من شدة قسوتها وبشاعتها، وكيف لي أن اشعر بالرضا وأنا اصفها بالكلمات، في حين "كفاح" كتبت التاريخ بحروف من ألم وكلمات من دم، لكن من المؤكد أنه بالإمكان توثيق بعضها في مجلدات تبقى شاهدة على جرائم الاحتلال واعوانه بحقها وبحق أسيراتنا الفلسطينيات واللبنانيات، إلى أن أطلق سراحها عام1995.
لم يكن السجن بالنسبة لها سوى مكاناً للصمود والثبات، ومحطة لمقاومة المحتل وأعوانه، فكانت دوما قوية وصلبة، وندا قويا للسجان، وجريئة في مواجهته، وثائرة في وجه الظلم الذي يمثله ذاك المحتل وأعوانه الجبناء، وكانت سنداً لأخواتها الأسيرات الأخريات، ورفيقة وفية لزميلاتها اللبنانيات اللواتي كن معها في السجن آنذاك وأبرزهن اللبنانية "سهى بشارة" التي سبق والتقيتها في بيتها في "جنيف" وحدثتني عن "كفاح" وعن تلك الظروف القاسية التي شهدها السجن آنذاك. فلمع اسم "كفاح" وذاع صيتها وانتشرت شهرتها، وانتقل عطر سمعتها وكبريائها الى سجن الرجال وخارج أسوار السجن، لتصبح واحدة من أشهر الأسيرات اللواتي مررن على ذاك السجن.
"كفاح عفيفي".. حكاية ملؤها الحزن، وجسم يكتنز الألم، واسم يشع بالأمل. "كفاح" هي تلك المناضلة العريقة والثائرة العظيمة تتنسم الحرية بعد سبع سنوات قاسية قضتها في سجن الخيام، وبالرغم مما تعرضت له تعود للحياة من جديد وترتبط برجل أحلامها، المناضل والأسير المحرر "محمد رمضان"، وهو لبناني الهوية وفلسطيني الانتماء، وكان قد اعتقل وأمضى هو الآخر تسع سنوات في سجن الخيام بعد مشاركته في تنفيذ عملية فدائية ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي..
تحررت وتزوجت وأنجبت من الأولاد والبنات (أربعة)، وتعيش مع أسرتها الجديدة بمنطقة الكولا في بيروت، وتتبادل الأدوار مع زوجها في متابعة شؤون البيت، وما زالت حتى اللحظة تحمل بين جنباتها حبا لهذا الوطن، وتحمل على عاتقها قضية الأسرى بملفاتها المتعددة، وبالرغم من جسدها الضعيف والمنهك بالأمراض المختلفة فهي تشارك في الاعتصامات والندوات والفعاليات المتعلقة بالأسرى، وتتنقل من هذه المنطقة إلى ذاك المخيم، ومن بيروت المقاومة إلى عواصم متعددة لنقل رسائل الأسرى وشرح معاناتهم ودعم نضالاتهم وصمودهم خلف قضبان سجون الاحتلال الإسرائيلي.
"كفاح عفيفي" .. التقيتها مرارا في بيروت واستمعت منها لشهادات كثيرة، ولديها الكثير مما تقوله، وبرأيي هي نموذج حقيقي للمرأة الفلسطينية الكادحة وما تحمله من معانٍ ومواقف تجسد التضحية والبطولة والفداء في مسيرة نضال طويلة وعريقة.
"كفاح عفيفي" لم تنل حقها في التكريم والتقدير، وان كان هناك من تقصير فذلك ليس مقصوداً، بل مرده تزاحم الأحداث والمناسبات واكتظاظ المواقف، لكنها حاضرة دوماً بحكايتها وتاريخها. "كفاح" هي حكاية وطن ومسيرة شعب في امرأة مازالت تعاني وتقاوم.
عبد الناصر فروانة
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين
عضو اللجنة المكلفة بإدارة شؤون الهيئة في قطاع غزة
أسير محرر ، و مختص في شؤون الأسرى