بعد مرور خمس سنوات على ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، الذي بدأت أولى حلقاته من تونس، والجدل الصاخب الذي رافق البدايات، وارتفاع سقوف التوقعات التي ترسمها صيحات الجماهير مطالبة بالتغيير، بعد تلك اللحظات الحماسية، سرت في عقول الكتاب والمثقفين، والمفكرين وأشباههم، موجة من الإحباط والشك فيما أوحت إليه الأسابيع والأشهر الأولى.
إذا كان من المبكر اليوم أن نقرأ بموضوعية وثقة مآلات الحراك الجاري، وتداعياته، والتأشير إلى محطات استقراره، والمدى الذي ستستغرقه الأمة حتى تستقر على حال، فإن اللحظة الراهنة تحتاج إلى قراءات حذرة، ولو من باب المراجعة الدورية لما جرى ويجري في طول الوطن العربي وعرضه.
لا شك في أن المجتمعات العربية، قد عاشت لعقود على صفيح ساخن تعاني من أمراض بدت وكأنها مزمنة، وقد تجاوزها منذ زمن العالم المتحضر، عالم الصناعة والتكنولوجيا، والعالم الذي انتقل إلى مراحل الرفاه والعدالة الاجتماعية ودولة القانون والمواطنة. بقي الوطن العربي كجزء مهم مما يعرف بالعالم الثالث، أو العالم الذي يوصف حقيقة بالتخلف، بقي الوطن العربي منجماً، وخزاناً ومستودعاً للخامات والمواد الأولية، وسوقاً استهلاكية لا أكثر، يعيش فيه القلة ممن يمرضون من التخمة، وتعيش فيه الأغلبية المسحوقة والمقموعة.
إذا كانت عوامل ودوافع التغيير موجودة وقوية في المجتمعات العربية وهو ما يعرف بالعامل الذاتي، فإن العوامل الخارجية قد حضرت بقوة ما أدى إلى حالة من التوهان الفكري والسياسي بشأن العامل المقرر والعامل الحاسم.
ومثلما كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الداخلي ناضجا لإشعال شرارات التغيير فإن العوامل الخارجية كانت جاهزة للتدخل والانقضاض على الكل ممن يستهدفهم التغيير وممن يستهدفون التغيير إلى الأفضل.
قد يكون حديثنا عن المخططات الإمبريالية الصهيونية، إزاء هذه المنطقة الاستراتيجية والغنية من العالم، حديثاً تقليدياً يستعيد لغة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ولكن الوقائع باتت تؤكد كل يوم أن المنطقة تخضع لمخططات وتتعرض لأطماع، متعددة الجنسيات والدوافع والأهداف.
ثمة مشاريع ومخططات في رأس الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية، وثمة مشاريع ومخططات وأطماع إسرائيلية، وثمة طموحات لدى إيران ولدى تركيا كدول إقليمية كبرى والآن يصبح الحديث أيضاً عن طموحات ومشاريع روسية. مشاريع ومخططات وطموحات متعددة الجنسيات ومتعددة الأهداف والمصالح، وتتميز بالتضارب والاختلاف وحتى الصراع، والغريب أنه ليس من بينها مشاريع أو مخططات عربية تنطلق من واقع الدفاع القوي عن النفس، والمصالح.
من حيث المبدأ، أرى أنه من حق كل أصحاب المشاريع والمصالح والأطماع والطموحات، أن يبحثوا عن مصالحهم، فالعالم لا يقوم أو يلتزم بمنظومة أخلاقيات متفق عليها، ترسم حدوداً واضحة لتحرك المصالح، وأن ما يسود هو لغة القوة، وموازين القوى وأنانية المصالح والاستراتيجيات.
واحدة من مشكلات القوى الرسمية وغير الرسمية العربية النشطة في الميدان، هو أنها تختلف على تحديد الهدف الرئيسي، وتختلف على تحديد العدو الأساسي، وتغيب عن أجنداتها رؤية موضوعية لأولويات الخطر، ولذلك نجدها في حالة من التيه والتضارب تقاتل بعضها بعضاً هنا، وتتفق هناك بلا معيار.
الوقائع كما جرت في الميدان خلال السنوات الخمس تقول إن خطر التقسيم والشرذمة الذي يستهدف الدولة الوطنية من قبل التحالف الأميركي الصهيوني هو الخطر الأول والداهم كترجمة لما يعرفه الكثيرون على أنه مخطط سايكس بيكو القرن الـ21.
وحتى لا نتهم بالمزايدة، أو بإسقاط الرغبات بعيداً عن الحاجة الماسة لتغيير النظام العربي الرسمي، فإن أحداً لا يستطيع أن يجادل في أنه لم يعد بالإمكان عودة القديم على قدمه شرط ألا يرتبط الحديث عن القديم بأشخاص ولذلك فإن التغيير قادم في كل الحالات، والسؤال هو هل ينبغي أن يقع التغيير في داخل حدود الدولة الوطنية، أم في أكثر من ثلاثين دويلة طائفية؟
المطلوب إذاً خوض المعركة داخل حدود الدولة الوطنية وحمايتها ما يعني إعطاء الأولوية ضد من يعملون على تفتيت الدولة الوطنية وهم التحالف الأميركي الصهيوني ولا داعي لشرح وتحديد المستفيد من ذلك.
الجديد بعد خمس سنوات أن هذا المخطط التفتيتي أخذ في الانحسار والتراجع، والبداية كانت من مصر، التي كانت الصيد الثمين، والحلقة الأهم، وهي التي أوقفت نسبياً وأربكت مخططات التقسيم. ما يجري اليوم في سورية يشكل حلقة أخرى بعد مصر، وذلك بفضل التدخل الروسي الذي أعلن التزامه بالمحافظة على الدولة الوطنية السورية، الأمر الذي سينتقل بعد وقت ليس بطويل إلى العراق، الذي يعاني من خطر الانقسام بسبب الغزو والتدخل الأميركي. إذا كان ما أسلفناه منطقياً، فإن المساحات البيضاء آخذة في التمدد على حساب المساحات السوداء فيما يتعلق بمآلات الحراك العربي نحو التغيير، وبالرغم من التكلفة الباهظة التي تتكبدها المجتمعات العربية.
بقي أن نشير إلى أن من يستلهم الحكمة ويتوخى الاستفادة من التجربة، سيكون عليه أن يبادر إلى التغيير الإرادي دون أن يكلف شعبه ونفسه تكاليف يحتاج لأن يدخرها في عملية بناء مجتمعات جديدة.
وبالإضافة فإن القراءة العميقة لأصل الحراك تستدعي وعي حقيقة الارتباط الوثيق بين كل ما يجري، وقضية الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي باعتبارها قضية محددة، ومن لا يعي هذه الحقيقة اليوم فسيترتب عليه أن يدفع ثمن وعيها المتأخر.
أما القضية الأخيرة في هذه العجالة، فإنها تتعلق بما يطلبه وينتظره الفلسطينيون المنتفضون وغير المنتفضين من العرب، الذين يعرف الكل حالهم. برأيي يكفينا من كل العرب والمتقاتلين، سواء من كانوا في أنظمة تتسم بقدر من الاستقرار النسبي، أو من تهتز أنظمتهم، ويعانون صراعاً دموياً، وسواء ممن يقاتلون بعضهم تحت لواء الإسلام المتطرف او الوسطي او من يقاتلون تحت شعار الوطنية أو حتى الطائفية، يكفينا من الكل أن يصرح ويعلن أنه يربط بين قضيته وأهدافه وبين القضية الفلسطينية الأمر الذي سيؤدي إلى تسريع وتعميق وعي المجتمعات الأخرى بأبعاد هذه القضية.
طلال عوكل