بات المواطنون الإسرائيليون بين فكي كماشة، أو كأنهم قد ابتلعوا الموسي الحاد الشفرتين، فبات من الصعب عليهم إخراجه أو ابتلاعه، فضلاً عن أنه يمزقهم ويقطع أحشاءهم، فهم يواجهون الموت من كل جانبٍ، ويتعرضون للخطر من أنفسهم ومن خصومهم، ولا يستطيعون صده أو منعه لأكثر من عاملٍ وسببٍ، بل إنهم يقتلون أنفسهم أحياناً بسبب الاشتباه ببعضهم، أو أثناء محاولاتهم صد المهاجم ومنعه، فيقتلون أنفسهم فيما يسمى بـ"النيران الصديقة"، ولا يستدركون خطأهم إلا بعد وقوع المحظور وقتل من اشتبهوا فيه وهو منهم، كما أنهم لا يتعلمون من خطأهم، فتراهم يكررونه دائماً في العديد من عمليات الطعن والدهس، التي تتسبب غالباً في حالة بلبلةٍ واضطرابٍ وفوضى في جموع المواطنين المتواجدين في المكان، إذ يفر أغلبهم مذعوراً خائفاً، ويظهر عليهم الارتباك والحيرة، الأمر الذي يجعل الاشتباه بذوي السحنة السمراء سهلاً وممكناً، فضلاً عن غيرهم من اليهود الملتحين من ذوي الملامح العربية اللافتة.
ربما سلم الإسرائيليون بقدرهم، ورضوا بحتمية المواجهة مع الفلسطينيين، ذلك أنهم يدركون في قرارة أنفسهم أنهم محتلون وغاصبون للأرض والحقوق والممتلكات، وأنهم يعتدون ويقتلون ويظلمون، فلا ينتظرون من أصحاب الحقوق إلا مقاومتهم وقتالهم بكل ما أوتوا من قوة، وبكل الأسباب والوسائل والأدوات الممكنة، وربما يستطيعون تكييف أنفسهم مع هذا الواقع، فطالما أنهم قد ارتضوا لأنفسهم أن يبقوا ظالمين ومعتدين، فإن عليهم أن يتحملوا ردات الفعل ومساعي استرداد الحقوق وتحرير الأرض، وأن يقبلوا بكل أشكال المقاومة ولو كانت موجعة ومؤلمة، وقاسية وخطيرة.
لكن الجديد الذي فاجأ الإسرائيليين وأربكهم، وأدخلهم في دوامةٍ جديدةٍ لا يعرفون كيف يخرجون منها، أو كيف يميزون مساراتها، ويفككون طلاسمها ويحلون ألغازها، فهم كمن كان ينتظر قدوم الخطر من الغرب، فجاءتهم الأخطار من تحتهم ومن فوقهم، ومن بين أيديهم ومن أسفل منهم، فلا يستطيعون صده، ولا يقوون على منعه، إذ أن مواجهة هذا الخطر الجديد تعني مواجهة الشعب الإسرائيلي كله، والتصدي للمواطنين أجمعين، ومراقبة أفعالهم وتفسير تصرفاتهم، وتعقب المجرمين فيهم، والمستغلين للظروف والأوضاع، ممن يحسنون الصيد في المياه العكرة، واستغلال الظروف لصالحهم، والاستفادة من الفوضى فيما يخدمهم ويحقق أهدافهم، والإسرائيليون بطبيعتهم أكثر من يتصفون بالانتهازية والاستغلال، فهم معروفون عبر التاريخ بأنهم يستغلون المحتاج، ويبتزون الخائف، ويذلون المسكين، وغير ذلك من أخلاقهم الدنيئة التي عرفوا بها واشتهروا.
فقد كثرت في الأشهر الثلاثة الماضية، التي هي أشهر الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، التي تميزت بعمليات الطعن والدهس انتقاماً للشهداء وثأراً من الأعداء، جرائمٌ إسرائيلية مدنية، يرتكبها مواطنون إسرائيليون ضد بعضهم البعض على خلفياتٍ جنائيةٍ، وبدلاً من أن ينفذوا جرائمهم كما هي عادتهم وغيرهم بإطلاق النار من مسدساتهم أو بنادقهم الآلية، فقد عمدوا إلى اعتماد الطعن وسيلةً لارتكاب جرائمهم وقتل خصومهم، كي يظهروا أن عمليات القتل التي تتم إنما تتم بأيدي الفلسطينيين، وعلى خلفيةٍ قوميةٍ معادية، وبذا يبعدون الشبهة عن أنفسهم، ولا ترقى الشبهات إليهم، إذ أنه لا يتبادر إلى ذهن المحققين أبداً أن مرتكب الجريمة هو إسرائيلي مثله، وأن دوافعه لارتكاب الجريمة دوافعٌ جنائية محضة، ولا علاقة لها بالدوافع الفلسطينية، ولا بالمنطلقات القومية العدائية التي تحكم العلاقة بين الطرفين.
الانتفاضة الفلسطينية الثالثة ساعدت على كشف حقيقة المجتمع الإسرائيلي، وعرته أكثر مما هو عاري، وأظهرت سوءته الاجتماعية، وأدواءه ومشاكله الداخلية، فطفت على السطح أخلاقهم الحقيقية، ومشاكلهم المخبوءة، وأحقادهم الدفينة على بعضهم، وبدا ذلك كله من خلال العديد من جرائم القتل التي تمت في أكثر من مدينةٍ إسرائيلية، وقد سجلت دوائر الشرطة الإسرائيلية بعض الحوادث التي تبين فيما بعد أنها جرائم مدنية جنائية، وأن مرتكبيها حاولوا الاستفادة من الأوضاع القائمة والظروف التي تشهدها المناطق الفلسطينية، في التغطية على جرائمهم، ونسبها إلى الفلسطينيين، كما سجلت حوادث تفجير لسياراتٍ مدينةٍ، تبين لهم فيما بعد أنها ليست عمليات مقاومة، وإنما هي عمليات على خلفية جنائية فقط، لكن منفذيها يعمدون إلى هذه الطريقة كونها الأقرب إلى اتهام المقاومة، والأبعد عن إثارة الشكوك حولهم.
أشارت تحقيقات الشرطة الإسرائيلية إلى جنوح بعض المواطنين الإسرائيليين إلى تسوية مشاكلهم الداخلية وتصفية حساباتهم فيما بينهم بالقتل، ذلك أن القتل دون إدانةٍ أو اتهامٍ لهم يريحهم من كثيرٍ من الأعباء والواجبات الملقاة على عاتق بعضهم، فالقتل الذي هو تغييب مادي لشهودٍ حقيقيين يمكن القاتل من تغييب الوقائع، وطمس الحقائق، والاستحواذ على بعض الحقوق التي قد يكون للضحية فيها نصيب بالشراكة مع القاتل، فضلاً عن أنه ينهي ديوناً ويسقط حقوقاً، وقد يصاحب عمليات الطعن والقتل سرقة أوراق ومستندات وأموال، مما لا تنتبه الشرطة الإسرائيلية إلى وقوعه لاستبعادها عمليات السرقة والسطو التي لا تصاحب في العادة عمليات المقاومة الفلسطينية.
إنه موسم الإسرائيليين الرائج، وفرصتهم الكبيرة التي باتت بين أيديهم سهلة، وكأنها دعوة واضحة وصريحة إليهم جميعاً لتصفية حساباتهم الداخلية بالدم، وإنهاء شراكاتهم الشائكة بالقتل، وهذا الأمر ليس بالغريب على الإسرائيليين اليوم ولا على اليهود بالأمس، فهذه هي أخلاقهم التي نشأوا عليها، وقيمهم التي تربوا في ظلها، الانتهازية والابتزاز والاحتكار والربا والتهديد والضغط، هي أدواتٌ إسرائيليةٌ يهوديةٌ قديمة، يستخدمونها ضد أعدائهم، لكنهم لا يتورعون عن استخدامها ضد بعضهم البعض في كل الأوقات وعلى مختلف العصور، والتاريخ على هذا يشهد بلسانهم وفي كتبهم المقدسة.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 8/12/2015
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]