إشكالية النضال بين الشعب والقيادة الفلسطينة

بقلم: أسامة نجاتي سدر

لا يمكن لأي مارٍّ على تاريخ القضية الفلسطينية إلا أن يتعجب من واقعها الحالي، وما آلت إليه بعد كلّ الجهاد والتضحيات التي بذلها الشعب الفلسطيني منذ أن وقع على فلسطين الاختيار كوطن قوميٍّ لليهود عام 1897 إلى انتفاضة العزة والكرامة والمقدسات، انتفاضة القدس، ولن أقول "مرورا بـ" فما مرت به أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن تتسع له المقالات والكتب، ولو كنتَ ممن ينظر إلى النصف الملآن تصطدم بواقع أليم يصعب عليك مقارنته بغيره من ثورات الشعوب وحركات التحرر الوطني في المنطقة والعالم.
حلم الدولة الذي داعب قادة النضال الفسطيني بدءا بالحاج"أمين الحسيني" ورئيس حكومة عموم فلسطين "أحمد حلمي عبد الباقي" عام 1948 إلى المتنافسين على وهم السلطة الوطنية الفلسطينية اليوم حلم مشبوه بأشخاصه ووسائله والإمكانيات المتاحة لتنفيذه، فهم يحاولون الوصول إلى القمر بالتأرجح على الثروة والنفوذ والسلطة غير آبهين بوقوع الوطن مضرجا بدماء الشهداء محطماً إلى الأرض، يمضون متعجلين لحصاد بعض ما اعتبروه تضحية منهم، أو خضوعا لمخططات دولية أو عربية، بل ربما مخططا صهيونياً لتصفية القضية أو تزييف وعي الأجيال التي لم تنس رائحة الوطن التي فاحت من الكبار، فبالرغم من مرور السنين وكثرة الخسائر لا زلنا في وضع لا يمكن ان يبشر بكيان مستقل قادر على البقاء والحفاظ على كرامة مقدساته وأبنائه.
غابت شمس الخلافة الإسلامية عن فلسطين عام 1917 دون سابق إنذار، فوجد القادة الفلسطينيين أنفسهم مضطرين للقيام بأول مهمة، وأي مهمة، تسليم مفاتيح القدس للمحتل الإنجليزي الحاقد "اللنبي"، ثم مقاومة وعد الملك الذي نقله "بلفور" بإحلال اليهود من كل الدنيا مكان الفلسطينيين، وإعطائهم سلطة وكيانا يمثلهم على حساب التاريخ والحضارة، وهم الذين لم يذوقوا طعم السلطة بعد ولم يعلموا ضريبتها، وبدأ الغرب يفرض واقعاً فهمه الشعب ورفضه قبل قادته فكان صوته يضطر المتآمرين أن يقفوا عند حدّهم كما حدث في ثورة 1929 التي استشهد فيها السائق محمد جمجوم والمتخرج حديثا من الجامعة الأمريكية في بيروت فؤاد حجازي والمزارع عطا الزير، أو يفاجأ بثوار يقودهم رئيس جمعية الشبان المسلمين المأذون الشرعي وإمام جامع الاستقلال عز الدين القسام.
لم تهدأ ثورة الشعب لحظة منذ الاحتلال لكن تاهت جهود القادة وانعطفت في أكثر من اتجاه بل وتلاشت أحيانا بفعل الضغط العربي والدولي، إلى أن أنشأت حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح لتضم كل من يقاتل لتحرير فلسطين دون تمييز اتجاه سياسي أو ديني أو قومي لكن تركيبتها المتنوعة من حيث الثقافات والاتجاهات ورغبتها الملحة باعتراف العالم العربي والعالم بها، ثم طموحها في إنشاء دولة على أرض فلسطين الذي يتعارض مع مصالح بعض الدول شوش بوصلة القادة وأضاع جهد أبنائها وقد كان من الممكن أن يحرر الوطن لو وجه نحو دحر العدو، وكان انقسامها حتميا إلى لواءات مختلفة في الفكر والايديولوجيات والأساليب النضالية.
اختارت حماس أن تقاتل تحت عباءة الإسلام منهجا ووضعت لنفسها أهدافا تمثلت بإقامة دولة الإسلام ثم تطبيق شرع الله، وكانت مقاومة الاحتلال تشكل عندها عنواونا واستراتيجية دون حساب للعواقب، ودون نظرة واقعية للتوازنات الدولية وحسابات المكسب والخسارة، مما جعل منافسيها يدعون أنها انتزعت نصرها على حساب دم شعبها الغالي.
انطلقت الانتفاضة الأولى عندما خرج الشباب حاملين الحجر والمقلاع غضباً لمستوطن دهس عمالا فلسطينيين على حاجز عنصري، فكانت مخاضا لحركة حماس وبعثا لحركة فتح والحركات الوطنية من رقاد طويل، وبرغم محدودية أدواتها وضعف تأثيرها العسكري إلا أنها حيرت العالم في صمود الشعب الفلسطيني ورباطة جأشه أمام الإغلاقات ومنع التجوال وسياسة تكسير العظام وضغط الوضع الاقتصادي القاتل، ولعل من سوء تقدير الحركات الوطنية والإعلام العالمي اعتبارها كانتفاضة طائر قبل الاستسلام للموت والفناء، وأوقفها اتفاق أوسلو الذي خدر الوطن أملا في انتزاع بعض من سرطان الاحتلال.
حسب شارون أن الشعب يركن إلى أمل واهم بسلام لا يسمن ولا يغني من جوع، ويترك ثوابته ومقدساته لعبث انتخابات يتسابق فيها المرشحون لهدر كرامة ودم الشعب الفلسطيني، لكنه وجده يخلع لباسه العسكري والشرطي المذل ويتجرد من كل شيء إلا غضبة لله والوطن، ويشعل ثورة سموها انتفاضة جديدة بأساليبها وأدواتها ووسائلها ردت أوهام السلام وآلامه إلى عذابات حرب الأحزمة الناسفة والسيارات المتفجرة, ووقف وراءها قيادة حكيمة استطاعت الوقوف مع شعبها بكافة أطيافه وتحافظ على كرامتها وتغذي الثورة في صدرها، وتحميها من المؤامرات الدولية والداخلية إلى أن سقط أبو عمار شهيدا وهو يلبس بذلة الثائر والكوفية.
من يظن أن الهوان والتخاذل من مفردات الشعب الفلسطيني، يعييه الزمن وهو يبحث عنهما في كلام الأطفال والشباب والشيوخ ولن يجدهما، من يظن أن شيئا يحجب عن عيونه القدس والمقدسات، سيكتشف أنها أشد من أي رادار كشف أو سيكشف عنه العلم، من يطمح أن يحرف بوصلته عنهما سيصطدم ولو بعد حين بانجذاب إليهما لا يمكن أن يقطعه شيئ، من ظن أن الزمن يمكن ان يطفئ ثورة الفلسطيني عليه ان يدرس تلك الجينات ليعلم أن الثورة أشد تأثيرا من جيناته في صفاته وحياته.
إن ثورة الخنجر والسيارات إنذار من شباب فلسطين وأطفالها لقادته المتصلبين خلف المناصب والمكاسب السياسية، أو الشعارات الرنانة وتوازنات القوة، ثم إلى قادة الاحتلال وشعبه المتطرف في حقده وعنصريته، ومن ورائهم قادة العالم العربي المغموسون في هوس السلطة والمال، ثم قادة العالم الذين لا يستدعون قضيتنا من مستودعات الإهمال إلا إذا تألمت إسرائيل أو أرادوا الظهور على شاشات الإعلام بمنظر الحريص على إنصاف المظلوم، بأن فلسطين ميزان العدل في الكون وقبلة التضحية والفداء، وإن عزَّ السلاح وانشغل عنها الناس هبَّ لها الحجر والشجر وأشبال في عمر الزهور ليثبتوا للعالم بأنه لا سبيل لراحة العالم وسكون الأمم إلا بإنصافها ورجوع الحق ،كل الحق، لأصحابه بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل.

أسامة نجاتي سدر