لقد كانت انتفاضة كاملة!
اليوم من شهر كانون أول 2015 ، يكون قد مرّ على انفجارها العبقري قرابة ثمان وعشرين سنة، وها نحن نشهد، منذ شهرين ميلاد انتفاضة جديدة، اسمها انتفاضة القدس أو الهبّة .. لا فرق .. والشيء بالشيء يُذكر.
تلك انتفاضة كاملة!
كان الفهد خارجاً بكامل سخونته، من الغابة البِكْر، يحمل قلب الريح، كأنه عاهل العاصفة، كان ريّاناً، مُشْبَعاً بغضب الأشجار التي ماتت واقفة، ولم تركع! وكان صمته قِطَعاً من غضب الليل الذي كَنَس البساطير الثقيلة من ليل المدن والقرى، وجعل يقظة الخوف أبديةً في حدقات الخونة والجنود .
تلك كانت انتفاضة . أما انتفاضة الأقصى العام 2000 فإنها سبعٌ روّضته البيوت، وأطلقته على الدخلاء. أما تلك فكانت فهداً بريّاً، له أناقة البرق وإغواء الغزال .
الأولى صوت الرأس، أما الأقصى فكانت شعلة الجسد كلّه.
1987 كانت زفّة واحدة أو جنازة واحدة، أو بالأحرى كانتا متداخلتين إلى درجة اختلاط الدمع بالحبق، وملوحة عرق الأعراف بعسل شَهد الفَرس .
تلك كانت صيحة إسرافيل الفلسطيني، الذي أيقظ الحجر والشجر والطير والينبوع، أما انتفاضة2000 فصحوة الجسد من خَدَر العملية الجراحية الفاشلة .
الأولى كانت غيث كانون الواضح، أما الثانية فهي تردد الغيمة في عباءة العاصفة.
الأولى كانت البداهة والبديهة، أما الثانية فإنها صنعة الثوب الكنعاني المطرّز .
تلك كانت الدخول الحاسم إلى بهاء الموت برضى كامل، أما اللاحقة فالحسابات تزاحم المشهد الذي يشدّك إلى أن تغسل الأرض، كل الأرض بوريدك الكريم .
تلك تاج المليحات، وأم الحكايات، وقصّة الراوي الذي لن تنتهي لياليه . أما الأخرى فهي مسرحية الكاتب المسلّح الناضج، الذي تقلّب على سفّود الجمر، وما فتئت تأكل كبده ليل نهار.
الأولى لحم التفاحة الأحلى، وليلة الدخلة التي لن ننسى لذعة السوسن فيها، أو حُرقة عجين ورقة الليمون، وصخب أغنيات الأهل الفرحين، أما الثانية فهي زواج الوردة للمدى الدامي، في فضاء قاعة المدعوين والشهود .
الأولى شهوة الزيت، وانفعال الشفتين، ورضى الزوجات عن الغياب المليء بالدوالي والرسوخ. أما الثانية فإنها البهجة بالموت العالي، والفجيعة باللوعة المجانيّة .. أحياناً .
والأولى مقابسات ليالي القبر التي أشرقت بالجنين الرسولي، أما الثانية فهي نهضةُ الفتى لتكتمل دروسه، وتصحو مداركه .
* * *
يغيب الآن الموسم كله، بإرهاصاته، وحلقاته وأسواقه وتجمعاته! وتحضر هندسة الحرب، لتبعدنا أكثر عن فِطرة ما كان في ذلك الموسم ( الإنتفاضة الأولى ) من حالات وحكايات . كأن الناس كانوا في موسم قطف الزيتون، أو بناء معبد كبير، أو كأنما يريدون تحويل نهر عظيم عن مجراه، أو إزاحة البحر إلى الوراء .. لهذا لم يتأخّر أحد! كان الرجال أطفالاً وشباناً وشيوخاً في الحقل أو البرّ، وكانت النساء يكملن أعمالهن في البيت دون توقّف!
ولعل التاريخ لم يشهد حالة انشغال دائبة مثل التي كانت، أيام تلك الانتفاضة الكبرى – ولا أقول الأولى إلّا تجاوزاً – حيث الانتفاضة 2000قيّدت الكثير من الناس، واقتصر فعلها على جيل محدد، يتمتع بلياقة رمي الحجارة واستعمال المقلاع، أو على المُدَرّبين جيداً على استخدام السلاح والرشاشات، ما جعل الكثيرين، وبالتحديد القاطنون في المدن المحررة “المناطق أ”، يبحثون عن دور مباشر لهم في تلك الانتفاضة، فلا يجدونه! ما جعل الكثيرين يرزحون تحت وطأة ضميرهم وسؤاله القاسي الممضّ، وهم يرون الشبان الصغار يبتلعون أدوارهم، ويتربعون على عرش المشهد السخيّ الجريء .
كما أن المرأة تراجع دورها كثيراً، ولم تهيئ لها الانتفاضة الثانية ذلك الدور الواسع العملاق الذي وفّرته لها الانتفاضة الأولى، حيث حلّت المرأة مكان زوجها الذي اعتقلوه، فأصبحت أماً وأباً، وعمّق حضورها ذلك الدور الاجتماعي المشرّف الذي ظهر في تشييع الجنازات التي طالما انتهت باشتباك طاحن مع جنود الاحتلال، وفي عيادة الجرحى، ومواساة العائلات الثكلى، وزراعة المساكب والخضروات، وتطوير الاقتصاد البيتي ..
ولم نسمع أحداً يسأل عن مصير أُسرته، وهو في حمأة الزنازين، أو في عين المتراس الحمراء .. ولم يخلع الناس – آنذاك – التطهريّة التي تليق بالأولياء والفلاحين البعيدين ، ولم يسقط رجل في إغراء المقارنة بين الطبقة المستريحة الحريرية، التي تشكلت في تلك السنوات الأخيرة، وبين أحوال الدهماء أو الرعاع -هكذا يسميّهم البعض-، وينظر إليهم على أنهم ليسوا أكثر من حطب، يصلح للاشتعال تحت طنجرة السياسة حتى تنضج، وبالتالي لا يأكل منها إلاّ الطبّاخون المعلمون، أو المَهَرة .
وفيانتفاضة1987 ، كان الانضباط أعلى، في السنوات الثلاث الأولى، وكان جدار الانتفاضة صلباً، لم تخترقه الأصابع الخفية المدسوسة، أو الشائعات السوداء . وكان الاستنفار كاملاً، ولهفة الناس حاسمة، حيث نكشوا حواكير بيوتهم وزرعوها، ورموا المنتجات الاسرائيلية، وكانوا أكثر قناعة بالتقشف الحقيقي الذي فاق زهد الرهبان في الجبال الجرداء، ولم تكن -حينها- تلك المجموعة التي تدبّ الآن بين الناس، تشدّها مصلحتها -بصفتها كمبرادور يستورد البضائع الإسرائيلية، أو وكلاء لكبرى شركات الدولة العبرية- أو يدفعها طموحها الأجوف -بصفتها، كما ترى نفسها، مؤهلة لوراثة الحكم، أو من أولي الأمر الذين يجب أن يصنعوا القرارات المصيرية للشعب والقضية- .
وفي تلك السنوات، كانت عبقرية الانتفاضة تتمثل في تحييد أسلحة الاحتلال الثقيلة، باعتمادها على الحجر والمولوتوف، كما تتمثل – أيضاً – بالالتزام الحديدي والدقيق بالقرارات التي كانت تصدرها القيادة الوطنية الموحّدة عبر بياناتها آنذاك ، ولم تشهد ذلك التعويم الأمني الذي فكّك “مركزية” السلطة الوطنية ، باعتبارها السلطة التي يجب أن ” تحتكر ” السلطات الثلاث .
أيام الانتفاضة الكبرى كان لها لون واحد هو الأبيض ، الذي يسعى للانتصار على الأسود بكل مكوناته ومصادره . ولم يدخل الرماد إلاّ بعد ثلاث سنوات أو أكثر، من بدء ذلك الانفجار العبقري الواسع والعميق.
في تلك الأيام، كانت روح الجندي المجهول تمور في ضلوع كل الناس، فكان التكاتف والتكامل والتكافل قد وصل إلى أقصى صوره ودرجاته، إلى حدّ أستطيع أن أقول، دون مبالغة: إن المليونين ونصف المليون فلسطيني في الضفة والقدس والقطاع كانوا أُسرة واحدة، فالأب للجميع، والأم والدة كل الأبناء والبنات، والأولاد أشقاء نزلوا من مجرى واحد وعسيلة واحدة، يتشابهون إلى حدّ التوأمة، ويتسامحون إلى أن أصبح الإيثار لغة منحوتة، لا يغلبها قولٌ مشبوه أو صراخ حاسد .
تلك الانتفاضة غسلت الجسد الواحد، من كل أدرانه وشوائبه، بعد أن صهرته في مرجل هائل، وسكبته لامعاً مضيئاً، لا طريق له إلا الأمام، بعد أن أحرقت، هنا وهناك، تلك الجيوب المُعيبة؛ سواء أكانت بؤرة للمخدرات، أو السقوط الأخلاقي، أو علبة لليل القاصف، أو بقعة كريهة متّصلة بالاحتلال، أو الشقاوة المريبة.
تلك الإنتفاضة كانت التاج الذي أكمل حجارته المسحورة، والعُرسَ الذي اكتمل إلى حدّ المعجزة، والحَجر الخرافي الذي حكّ هواء الفولاذ، فدبّت النار في هشيم الدنيا، وفهقت السماء بنجومها، فغاب الليلُ .. إلاّ قليلاً .. بانتظار الشروق الكبير ، قبل أن يتمّ اعتراضها بمؤتمر مدريد وما تبعه من اتفاقيات ..
المتوكل طه/راي اليوم