عندما جاء البوليفاري الراحل الكبير القائد تشافيز الى رئاسة الحكم في فنزويلا في عام 1998 لم يحدث تغيراً ونقلة نوعية في اوضاع فنزويلا فقط،بل أصبح قائداً ورمزاً لكل القوى الثورية والتقدمية،في امريكا اللاتينية على وجه الخصوص،حيث كان المثال والقدوة ولتقضي به شعوب امريكا اللاتينية وتحقق القوى الثورية الكثير من الإنتصارات على صعيد التحرر من نير القوى والطغم الإستبدادية والإستغلالية والديكتاتورية لصالح انظمة تعبر عن إرادة شعوبها وجماهيرها،وتحدث انقلاباً ثورياً في اوضاعها لجهة إنتشالها من الجوع والفقر والقمع والإستبداد وإحداث تنمية اقتصادية حقيقة تنهض بها نحو التطور والتقدم،وزيادة الناتج القومي وانخفاض معدلات البطالة والتضخم المالي.
تشافيز حرر بترول وثروات وخيرات فنزويلا من سيطرة الشركات الاحتكارية والعصابة الأوليغارشية التي حولت الشعب الفنزويلي إلى خدم وعبيد،انتشل فنزويلا من الفقر المدقع وقاد تنمية تنموية حقيقة بعيداً عن وصفات مؤسسات النهب الدولية البنك وصندوق النقد الدوليين،ويكفيه فخراً انه خلال 15 عاماً من حكمه حققت فنزويلا أعلى المستويات التربوية والتعليمية بين دول العالم أجمع،وكذلك فترة حكمه أحدثت انقلابا جذرياً في حياة الفنزويليين،على كل الصعد الإجتماعية والاقتصادية والسياسية لصالح الفقراء والمهمشين،ويكفيه فخراً كذلك بأنه عندما حاولت القوى الرجعية والطغم المالية في الداخل وبالتعاون مع أمريكا ومؤسسات النهب الدولية البنك وصندوق النقد الدوليين في عام 2002 الانقلاب عليه،خرجت الجماهير الفنزويلية الى الشوارع وأعادته إلى الحكم.
اليوم التجربة البوليفارية في عهد خليفة "تشافيز" "مادورو" تتعرض الى تحدي ومخاطر جدية،قد تطيح بكامل التجربة والتي سيكون لها تداعياتها وتأثيراتها السلبية والخطيرة،ليس على الداخل الفنزويلي فقط،بل على كل دول امريكا اللاتينية،وكل القوى والشعوب التي كانت تعتز وتفتخر بهذه التجربة الثورية،وترى فيها نموذجاً ومثالاً ايجابياً وتقدمياً وثورياً لنيل حريتها وإستقلالها،وإقامة انظمة تعبر عن إرادة شعوبها.
بعد خسارة البوليفاريين بقيادة الرئيس الحالي "نيكولاس مادورو" الإنتخابات البرلمانية التي جرت يوم الأحد 6/12/2015،واضح بان التجربة البوليفارية بعد سبعة عشر عاماً تواجه تحديات خطيرة قد تعصف بكامل التجربة،وهذه الخسارة اجتمعت والتقت مجموعة من العوامل والمصالح بين قوى محلية رجعية ورأسمالية طفيلية وطغم مالية مع مؤامرات خارجية قادتها قوى إمبريالية وصهيونية،ترى في التجربة البوليفارية خطراً على مصالحها في فنزويلا وامريكا اللاتينية الحديقة الخلفية للنهب الأمريكي.
البوليفاريون خسروا الإنتخابات،وخسارتهم للإنتخابات لأنهم لم يمسوا بعلاقات الإنتاج والملكية الرأسمالية،وهم كمن أراد العبور للمجتمع المدني دون ان يهدم أركان العشائرية والقبلية ويمس بعلاقاتها الإنتاجية،وكان يراودهم وهم إمكانية ضبط الرأسمالية من خلال الحكومة،وكذلك المؤامرات الخارجية وعمليات التخريب الممنهجة من قبل الشركات الإستثمارية والإحتكارات المالية،اربكت الحكومة وشلت عملها في إطار تنفيذ خططها وبرامجها الإصلاحية على مختلف الصعد،لكي تمنع الحكومة من تحقيق أية انجازات حقيقة أو ان تحقق استقرارأ اقتصادياً،وقد أثبت الواقع بأن عدم المس بعلاقات الإنتاج والملكية الرأسمالية،كانت مقتلاً للتجربة البوليفارية،وهيأت عوامل سقوطها في الإنتخابات،ومما زاد الطين بله ،أن الأزمة الإقتصادية اخذت بالتعمق في السنوات الثلاث الأخيرة،بسب إنهيار أسعار النفط عالمياً،والذي يشكل أحد مصادر الدخل الأساسية للحكومة الفنزويلية،والذي رسمت وبنت عليه خططها الإقتصادية والتنموية، إنهارت أسعار النفط ودخلت البلاد في حالة من التضخم المالي غير المسبوق،ففي عام 2013 كان سعر برميل النفط (100) دولا،وليتراجع عام 2014 الى (88) دولار وفي عام 2013 انخفض الى (47) دولاراً،وفي شهر تشرين ثاني الماضي من العام انخفض الى (37) دولاراً،ولتصبح الحكومة الفنزويلية عاجزة حتى عن حتى استيراد المواد الغذائية وغيرها من المواد الأخرى،وليحدث ذلك تململاً وتذمراً واسعين عند قطاعات واسعة من السكان،وخاصة بين الفئات المهمشة والفقيرة،ناهيك عن أن التضخم المالي ارتفع من (68.5)% عام 2014 ليصل حسب تقرير توقعات صندوق النقد الدولي الى ما يزيد عن (150 )% في عام 2015.
المفترض كان أن ترى الحكومة الأمور بشكل واضح وجلي،وتلجأ لحلول ومعالجات جذرية وثورية،تدك من خلالها معاقل الرأسمالية وتهز أركان علاقتها الإنتاجية،في فترة الإنقلاب الذي قادته القوى اليمينية والطغم المالية ضد تشافيز في عام (2002)،فهذه الطغم بالتنسيق مع قوى خارجية متأمرة ومرتبطة بأمريكا،ومعها شركة النفط الفنزويلية،قادت اضراباً عاماً،شل كل الحركة في البلاد،بالإضافة الى تعطل كامل القطاعات الإنتاجية،ولتبلغ قيمة الخسائر فقط في ثلاثة شهور ما يزيد عن 12 مليار دولار.
الحكومة بدل من اتخاذ تدابير واجراءات جذرية تمكنها من السيطرة على الأوضاع،كانت تقوم بعمليات وحلول ترقيعية،تجبر على التخلي عنها تحت قوة الإحتكارات والقوى الرأسمالية،فهي نجحت لفترة في ضبط اسعار السلع الأساسية وحمتها من تحكم المحتكرين،وفرضت رقابة على صرف العملات الجنبية،لمنع هروب رؤوس الأموال،وحققت الحكومة نجاحات جزئية ومؤقتة في مواجهة عمليات التخريب الممنهج،ولكن تلك الإجراءات والتدابير أثبتت أنه لا يمكن ضبط السوق الرأسمالي دون المس بعلاقات الإنتاج،التي تسمح للرأسمالية بالتحكم بالإقتصاد.
الجماهير الفنزويلية دفعت ثمن هذه التدابير الخاطئة،فمن اجل الحصول على السلع الأساسية المدعومة من الحكومة تضطر للوقوف في الطوابير بالساعات،وبقية السلع الأخرى تضطر للحصول عليها من مصادر أخرى بأسعار باهظة تستنزف قدراً كبيراً من دخلها.
وقضية الرقابة على الصرف التي كانت الحكومة تهدف من خلالها التصدي ومكافحة ظاهرة تهريب رؤوس الأموال،لصوص الطغم المالية والطفيلية الكمبرادورية،استثمرتها ضد الحكومة،لكي تزيد من أرباح شركاتها ورأسمالها ،وتعمق من ازمة الحكومة،فبدل أن يستثمر الرأسماليون الأموال في الإنتاج،فقد وجدوا بأنه من الأفضل لهم والأكثر ربحية استخدام الدولار الذي تبيعه الدولة على سعر تفضيلي في استيراد المنتجات،وبيعها في السوق المحلية بأسعار الصرف للسوق الموازية (السوداء).
المهم لصوص الرأسمالية والكمبرادورية الطفيلية والتي نجحت في اختراق قيادات في السلطة لكي تشترك معها في هذه المؤامرة نهبت ما لا يقل عن 22 مليار دولار من المال العام،معززة الفساد ومنشطة السوق السوداء.
فوز قوى اليمين في انتخابات الجمعية العامة،ناقوس خطر،فهذه القوى قد تطيح بالرئيس وتنقض على التجربة البوليفارية،ولذلك لا بد من تغيير اتجاه المقود الذي طالب به الراحل تشافيز،ودعا فيه الى بناء اقتصاد اشتراكي واستبدال الدولة البرجوازية بنظام قائم على "الكومونات" (سلطة البلديات).
الرئيس الفنزويلي مادورو وفي حديث تلفزيوني تحدث عن "برنامج للمرحلة الجديدة من الثورة مع مراجعة عميقة وانتفاضة". وبدون علاج جذري يمس بعلاقات الإنتاج وملكية الرأسمالية فالتجربة البوليفارية في خطر جدي،فقد يطاح بها وتندثر كما حصل مع الثورة الساندينية في نيكاراغوا بقيادة اورتيغا .
بقلم/ راسم عبيدات