لم تجف دمعة أم الشهيدة دانيا ارشيد، سبعة وأربعون يوماً ولما تزل تتقلب في المضاجع، فما عاد الليل هو الليل، وما عاد الصبح كما كان، وما عادت ضحكة دانيا تملأ المكان، وما عادت تدق على الأبواب، وهي عائدة من المدرسة، لتلقي بحقيبتها في صحن البيت على عجل، وتبدأ في سرد الحكايا على مسامع أمها.
انكسر صحن البيوت، وأخذت دانيا كل الأشياء، ولم تبق بعدها إلا صورة صبية معلقة على الجدار، ومشاهد لطفلة تقفز في كل ركن من البيت، سبعة وأربعون يوماً لم تنم أم دانيا، تحاول أن تغمض عينها فتفيق على مشهد عروس تلبس ثوب زفاها الأبيض، وفي الصباح، تحكي أم دانيا لجاراتها: لقد رأيتها الليلة بلحمها ودمها، وتحدثت معها، وكأنها لم تمت، لقد لامست وجهها، وضممتها إلى صدري، وكانت ضحكتها بلون القمر.
تلتفت أم دانيا إلى ابنها عدي، وترى فيه العوض، وهي تطلب منه أن يساعدها في إعداد الطعام الذي ستوزعه عن روح أخته، ولم تدر أم دانيا أن هذا الطعام سيوزع على المعزين باستشهاد ابنها عدي بعد سبعة وأربعين يوماً.
حتى أنت يا عدي، فمن يخفف عن أم دانيا فجيعة الفراق، من يمسح دمعتها؟ من سيقول لها: لا تذرفي كل الدموع يا أمي، ابق لنا نصيباً من حزنك يا أمي، حين يحط خبر استشهادي على كتفيك كسرب حمام.
ومات عدي بضغطة على الزناد، مات عدي برصاصات العدو الإسرائيلي؛ التي تصب الموت صباً فوق عذاب الفلسطينين، رصاصات العدو الإسرائيلي لا تدق على الأبواب، ولا تسأل عن هوية القتيل، ولا تستأذن رب البيت، ولا تمهله كي يختار الشهيد من بين أبنائه، رصاصات العدو الإسرائيلي أغرقت السياسة الفلسطينية ببحر من الدمع والأحزان والفشل والتخبط، وتضغط على عصب الانتماء، وتتعمد قهر الناس وسحق الأزهار.
هوني على نفسك يا أم عدي، فجرحنا النازف لم يقطب شرايينه بدماء دانيا، هوني على نفسك يا أم دانيا، فطريق عدي ممتد وطويل، ونحن على قائمة الانتظار، لا خيار في يدينا، ولا مناص لنا من رصاص القناص سوى اقتناص الفرصة، ومواصلة المسير، ولا مناص لنا من ركوب القافلة التي اعتلى ظهرها الشهيدان عدي ودانيا، ودون ذلك سنظل على قارعة الصحراء، يدفننا العدم، وننتظر التالي في الدور؛ فعدونا لا يريدنا أحياء، حتى ذلك الذي ظن نفسه في مأمن، سيدركه الوقت، وسيشرب من كأس الشهداء الذين طرزوا أسماءهم قبل دانيا ارشيد وأخيها عدي ارشيد بعشرات السنين.
وفي المساء تمسح أم عدي دمعتها، وتنظر في عيون أبي دانيا، أربع عيون تعانق الأحزان، هنا لعبت دانيا، وهنا ضحك عدي، وهذه شهادة دانيا، وهذا قميص عدي، وهذا ما قالته دانية، وذاك ما فعله عدي، إنهما يسكنان ذاكرة الزمان، في الوقت الذي يسكن فيه الآباء ذاكرة المكان، وهما يراجعان سيرة الأحزان، ويرددان: لا نحن أفضل حالاً من والدي الشهيدين فادي وشادي الخصيب، ولا نحن أسوأ حالاً من والدي الشهيدة هديل عواد، ولا نحن أقل تضحية من والد الشهيد أنس حماد، الذي نسف اليهود بيته، وقف أبوه بسام حماد خطيباً في يوم الجمعة، وراح يحض الناس على الشهادة، نحن جزء من هذا الشعب الفلسطيني الذي فقد أرضه وبيته ومستقبله، ولما يزل يحمحم للنزال كفرس عربية، ترفض أن تقيدها السلاسل.
د. فايز أبو شمالة