بحسب الصحافة الإسرائيلية وتحليلاتها في الأيام الماضية، فإنّ العام 2015 هو أكثر الأعوام هدوءا في قطاع غزة منذ خمسة عشر عاماً. وبحسب تحقيق صحفي، واعتمادا على تصريحات ضابط إسرائيلي كبير، فإنّ عدد المشاركين في المواجهات الانتفاضية هم نحو 600 شخص، وهو تصوّر يهرب من الحجم الحقيقي للانتفاضة. لكن الحدثين (الهدوء والانتفاضة) يشكلان جزءا أساسياً من مؤشرات "الاستراتيجية" الفلسطينية الممكنة في المقاومة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، ومؤشرا على السيناريوهات الممكنة قريباً.
بشكل عام، يُعد هدوء غزة في مصلحة انتفاضة الضفة الراهنة، كما أنه في مصلحة قطاع غزة؛ لأنّه من دون هذا الهدوء كان سيتكرر سيناريو العام 2014، عندما تحولت الأنظار من هبّة كانت تتبلور بعد حرق الفتى محمد أبو خضير، إلى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما رافقها من دمار وضحايا. إلا أن هذا الهدوء يعكس أيضاً تسليم القائمين على المقاومة في غزة بضرورة تفادي مواجهة عسكرية غير متوازنة، والتركيز على الردع والهدوء. يضاف إلى ذلك أن عدم القيام بعمليات مقاومة عسكرية في الضفة، منذ بدء الهبّة الراهنة حالياً، يشير لتطور في الموقف يعطي الهبّة الشعبية فرصتها الكافية، فضلا عن تجنب رد الفعل الإسرائيلي التدميري المتوقع في غزة، لو تحركت "حماس" أو "الجهاد الإسلامي" عسكرياً في الضفة.
من السطحي والتضليل الحديث عن أنّ الهبّة في الضفة الغربية تقتصر على بضع مئات؛ فحتى لو صح أنّ من يقوم بالمواجهات في مناطق التماس يوميا هم بضع مئات، فإنّ الحقيقة أيضاً أنّ هناك عشرات الآلاف وأحياناً أكثر، يتضامون في جنازات الشهداء والمظاهرات المطالبة بجثامين الشهداء. فضلا عن تطور حالة شعبية مهمة، من نوع "نواطير القرى" وحراسها، من لجان شعبية تحمي القرى من اعتداءات المستوطنين، وهو ما خلق ردعا، نسبيا على الأقل، أو فرض قواعد مواجهة جديدة، مع المستوطنين، وقد يقطع الطريق على مخطط التطهير العرقي الذي كانوا ينفذونه. ولعل من مؤشرات سطحية وتهافت اختزال الحديث عن الانتفاضة إلى بعض مئات من المشاركين الفلسطينيين، هو اضطرار الجيش الإسرائيلي لاستدعاء وحدات وكتائب احتياط إضافية ونشرها في الضفة الغربية، ويتوقع أن يبلغ عدد هذه القوات مطلع الشهر المقبل 8 كتائب، ما يوضح جزئياً تداعيات الانتفاضة.
يريد الزعم بأن المشكلة هي فقط "الستمائة مشارك"، تقليص حجم المشكلة، لدرجة القول إنّه باعتقال هؤلاء، أو اعتقال وإصابة وقتل أغلبهم، تُحل المشكلة. والواقع أنّ هناك سيناريو آخر، يشير إلى أنّه حتى لو لم تتطور الانتفاضة لحالة شعبية شاملة، فإنّها قد تنجح، وربما نجحت بالفعل، في تقديم نموذج مقاومة (أو استراتيجية) ستستقطب مع الوقت المزيد من المشاركين، خصوصاً مع حالة الاحتفاء الشعبي بالمقاومين. والواقع أنّ الجيش الإسرائيلي قال إنه يستعد لوضعية يصبح عدد المشاركين فيها 6 آلاف شخص. لكن الأهم من هذا في الواقع، أنّ استمرار المواجهة يخلق روحا وعقلية جديدتين، وبالتالي حتى لو افترضنا استمرار الفجوة بين جيل الشباب والأجيال الأكبر سناً، فإنّ المناخ العام يتطور باتجاه حفز المزيد من الشباب للنشاط المقاوم، الذي قد يتعدى نطاق المواجهات أو حتى العمليات الفردية المختلفة، إلى التفكير بأنماط مقاومة جماهيرية وشعبية جديدة، داخل المدن والقرى وليس فقط في نقاط التماس.
بموازاة بطء تحول المواجهات الراهنة مع الاحتلال إلى حالة شعبية واسعة، فإنّ استمرار المواجهات والعمليات يعكس حالة متجذرة قد تتسع أفقياً لشرائح أكبر، وعمودياً لتطوير بنى تنظيمية، وأنماط مواجهة ومقاومة مختلفة تعمل في داخل المجتمع الفلسطيني.
ينقل الهدوء في غزة الكرة للملعب الفلسطيني والعربي لحل مشكلتي الحصار والانقسام في غزة. لكن في المقابل، يبدو تحييد القطاع عسكريا (جزئياً بفضل الردع الذي تؤمّنه المقاومة)، سبباً ومؤشرا على تكرس خيار الانتفاضة غير المسلحة (باستثناء السلاح الأبيض) كخيار يستقطب الدعم.
إلى ذلك، فإن عدم تطوير الفصائل لخطاب وبرنامج مواجهة شامل في الضفة الغربية، واضطرار حتى شبان هذه الفصائل للنضال الفردي وبآليات يحددونها هم، قد لا يشكلان عائقاً أمام استمرار الانتفاضة وتطورها واتساعها أفقيا بضم شرائح وأنماط جديدة، وعموديا بتطوير بنى قيادية وتنظيمية مستقبلا، وبما يتجاوز الفصائل لأطر تنظيمية أخرى، أو لإصلاح هذه الفصائل.