ربما تكون الإنتفاضة الفلسطينية في مخيمات ومدن وقرى الأراضي المحتلة قد ساعدت على تمديد عمر السلطة الفلسطينية ورئيسها، بعد أن فشلت كل محاولات إنعاشها وتحويلها إلى نواة دولة بعد اتفاق اوسلو، وحُصرت وظيفتها في مسألة الأمن، كمحاولة إسرائيلية لإدامة الحالة المشوّهة والمعكوسة في العلاقة مع الإحتلال وما يمارسه مستوطنوه من جرائم متكررة سارعت في تفجير الأوضاع والصدام مع الإحتلال.
أوسلو كان مشروعاً عالمياً لإنقاذ إسرائيل من أزمتها مع الإنتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، في نفس الوقت كان ملاذاً للقيادة الفلسطينية التي عصفت بها أزمة مالية كبيرة تزامنت مع تآكل شرعيتها وجعلتها تعيش هاجس "القيادة البديلة" قبل وبعد تشكيل وفد المفاوضات إلى مؤتمر مدريد 1991، ودفع القيادة الفلسطينية لتوقيع الإتفاق بكل ما يحمله من ألغام وظلم للفلسطينيين، تحت مبرر أنه إتفاق انتقالي ستعقبه مفاوضات على أساس الأرض "مقابل السلام" تفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة في حدود الرابع من حزيران 1967.
أوّل ألغام أوسلو أجهزت على حدة الموقف الوطني الذي تشكل عقب انتفاضة الحجارة عام 1987، وجرى التعبير عنه في دورة المجلس الوطني "دورة الإنتفاضة" التي عقدت في الجزائر عام 1988، وثاني ألغامه زرعت في طبيعة الإتفاق الذي يلزم الفلسطينيين- الطرف الأضعف في الصراع، بمعادلة أمنية معكوسة ويطالبهم بتوفير الأمن للإحتلال في سابقة غريبة ظالمة تفرض على الشعب الذي هجّر وسلبت أراضيه بتأمين وحراسة الإحتلال ، وثالثها إقتصادية تجسدت في "بروتوكول باريس الإقتصادي" الذي حرم الفلسطينيين من فرص بناء إقتصاد وطني متحرر ومنفصل عن إقتصاد الإحتلال وأنتج "كمبرادور" فلسطيني متحالف مع الإحتلال يسعى لإدامته لضمان مصالحه الإستثمارية، ورابعها تمثل في تجاهل عمليات بناء المستوطنات والتوسع فيها، الأمر الذي حوّل كل مدن الضفة الغربية إلى معازل تفصلها حواجز عسكرية وجدار للفصل العنصري، وخامس هذه الألغام هو الإبقاء على آلاف المعتقلين الفلسطينيين داخل سجون الإحتلال وإخضاع حريتهم للمفاوضات على أساس تصنيفات إسرائيلية، وما بين اللغم الأول والخامس هناك مئآت التفاصيل التي حوّلت حياة الفلسطينيين إلى جحيم، عجزت القيادة الفلسطينية عن تفكيكها، إلى تمكنت إسرائيل من تحويل السلطة الفلسطينية إلى مجرد شركة حراسات أمنية غير مكلفة مالياً للعالم قياساً بحجم نفقات جيش الإحتلال في حال التواجد المباشر في مدن ومخيمات الأراضي المحتلة، في نفس الوقت جرى ضخ مليارات الدولارات من المجتمع الدولي على خزينة الإحتلال تحت مظلة المفاوضات و"تعزيز القدرات الأمنية لإسرائيل"، كان آخرها المليارات الأربعة التي وعد "باراك أوباما" بمنحها لإسرائيل في العام 2016.
بعد أوسلو زادت معدلات الهجرة اليهودية وغير اليهودية إلى إسرائيل، وتضاعف الإستيطان عشرات المرات، وشقّت شبكة كبيرة من "الطرق الإلتفافية" التي تصل المستوطنات ببعضها، واستطاعت إسرائيل تدريجياً استبدال مرجعية عملية السلام المزعومة" الأرض مقابل السلام" بمرجعية جديدة عنوانها "الأمن مقابل التنمية" كما روّج لها "شتاينماير" وزير الخارجية الألماني مؤخراً، أو "الإستقرار مقابل التحسينات الإقتصادية" كما حاول وزير الخارجية الأمريكي فعله خلال جولاته الأخيرة لرام الله وإسرائيل، وفي ظل ترهل وتغافل وعجز القيادة الرسمية وانشغالها بمعارك داخلية مع حركة حماس والنائب محمد دحلان عدة سنوات، تمكنت فيها إسرائيل إلى حد كبير من وسم نضال الشعب الفلسطيني التحرري والمشروع بالإرهاب، وأصبح مطلوباً من الشعب الفلسطيني أن يصمت عن جرائم الإحتلال ويوفر لعصابات مستوطنيه الراحة والأمن!
مأزق أوسلو أكبر من "خطاب القنبلة" الذي وعد به الرئيس عباس ولم ينفذه، وأزمات أوسلو أوسع من محاولات إعادة تدويرها لصالح فكرة السلام الإقتصادي، ومشروع السلطة الإنتقالي والأمني فشل في أن يتحول إلى دولة مستقلة ذات سيادة، وكل ما تبقى للشعب الفلسطيني سلطة مشوّهة منقسمة وعاجزة لا تستطيع توفير أبسط مقومات العيش الكريم لشعبها، ولا تقوى على حمايته من جرائم الإحتلال التي وصلت ذروتها خلال ثلاث حروب على غزة راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين بين ركام بيوتهم، وما زال آلاف الأسر النازحة في إنتظار وعد "إعادة الإعمار".
الإنتفاضة الفلسطينية الحالية رغم ضرورتها وأهميتها أجلّت الصدام مع السلطة كأحد إفرازات أوسلو الملغوم، وإن كانت تفعل ذلك بشكل غير مباشر، ولكنها لم تلغ إمكانية حدوثه في أي وقت، بعد أن فشلت القيادة الفلسطينية في الإجابة عن أسئلة المستقبل الفلسطيني، وما زالت تراوغ من أجل كسب الوقت واستدرار التعاطف الشعبي ومن أجل الحصول على فرصة مفاوضات جديدة، بعد أن أخفقت في إستعادة وحدة النظام السياسي الفلسطيني وتحديثه إنتخابياً، وفاقمت من الأزمات الإقتصادية التي تفتك بفقراء الشعب، وأحالت الآلاف من أبنائه إلى جيش المتعطلين عن العمل، وتخلت عن جزء كبير مسؤولياتها إتجاه قطاعات التعليم والصحة، وتركت الفئات المهمشة دون أي خطة تطوير، وفتحت المجال واسعاً أمام الشركات الإحتكارية لنهب المواطنين.
معركة الشعب الفلسطيني مع الإحتلال الإسرائيلي وكافة المظاهر الناتجة عنه، وهي المعركة المركزية لكل أبناء الشعب الفلسطيني، ولكنها أيضاً متوقعة مع كل من يحاول تعطيل نهضة الشعب وتقويض صموده، أو يغامر بمحاولات إعادته إلى فصول ملهاة تمرد عليها جيل جديد لم تخبره القيادة الرسمية، وظنّ البعض آثماً أنه تم تدجينه.
الذي يريد أن يحكم الشعب الفلسطيني عليه أن يبحث خيارات سياسية جديدة منسجمة مع واقع الإنتفاضة وحاجاتها ورسائلها، ويستفيد من تجربة مفاوضات عقيمة تجاوزت العقدين إستغلتها إسرائيل لتفعل ما فعلت، وعليه أيضاً مسؤولية توفير فرص عمل لنصف مليون متعطل عن العمل بحلول العام 2020، وأن يبنى المشافي والمدارس والجامعات ودور الحضانة للأطفال، وأن يوقف التدمير المنهجي لقطاعي التعليم والصحة من أجل بناء أجهزة أمنية تنتهك يومياً كرامة الناس وتسلبها حقوقها وتعجز عن حمايتها من عصابة مستوطنين تحرق عائلة في نابلس أو قوة مستعربين تنفذ جريمة داخل مشفى في الخليل، وعليه أن يوقف تغوّل الشركات الإحتكارية الفلسطينية على جيوب المواطنين ويخضعها للمحاسبة، وبعدّل من القوانين التي توفر غطاءا على لصوصيتها تحت شعار "تشجيع رأسمال الوطني".
ألغام أوسلو التي تفجرت لم تفلح في الإجهاز على القضية الوطنية وإن أصابتها بالأضرار، فهو إتفاق فشل حتّى الآن من تذويب الهوية الوطنية وتحويل الشعب الفلسطيني إلى أقليات قومية ودينية تعيش في "إسرائيل الكبرى"، والإنتفاضة الفلسطينية التي يخوض غمارها جيل التحدي والبناء هي القول الفصل في أوسلو والسلطة، وحددت نمط العلاقة الواجبة مع الإحتلال والإستيطان، علاقة مكلفة ولكنها أقلّ كلفة من سنوات بيع الأوهام.
بقلم/ محمد أبو مهادي