يعتقد قطاعٌ كبيرٌ من الإسرائيليين أنهم يتعرضون إلى غزوةٍ فلسطينيةٍ منظمةٍ ومستمرة، وأن الفلسطينيين يهاجمونهم في بلداتهم، ويقتحمون عليهم مناطق سكناهم، ويقاتلونهم في "عقر بيوتهم"، وأنهم يذهبون إليهم ويبحثون عنهم، ويقومون بمهاجمتهم في أماكن يفترض أنها آمنة، وأنها تتمتع بحماية ورعاية جيش الدولة وجهاز شرطتها، ولكن صافرات الإنذار التي يكرهون سماع صوتها باتت تمزق صمتهم، وترعب أهلهم، وتطلق من حينٍ لآخرَ، بناءً على شهادة مستوطن أو شكوى جندي بوجود فلسطينيٍ يحمل سكيناً، أو يقود سيارةً مشبوهةً، أو يتجول في شوارع المدينة ويبدو عليه أمارات غريبة.
يكتب مدونٌ إسرائيليٌ أن نشطاء فلسطينيون يهاجمون ضحاياهم ويطعنونهم في محطات الحافلات في وسط المدن والبلدات، وفي المحطات المركزية التي تتمتع بالحماية، وتخضع للرقابة والتصوير، وفيها بواباتٌ كهربائية، ومعابر إليكترونية، وهم يدخلون إلى المستوطنات الحصينة، والبلدات المحمية، ذات الأسيجة والأسوار العالية والأسلاك الشائكة، ويدخلون إلى المصانع والمعامل والمقاهي والمطاعم، ويصلون إلى كل مكانٍ يظنه الإسرائيليون آمناً، إذ دخلوا كنيساً يهودياً وهاجموا المصلين، واختلطوا مع الجنود وسلبوهم سلاحهم، ودخلوا الأسواق المركزية وهاجموا المتسوقين والمتجولين، إنهم ينجحون في الوصول إلى أي مكانٍ يريدونه، رغم ادعاءات الحماية والحراسة والمراقبة وعمليات التفتيش والتدقيق، لكنهم دوماً ينجحون في شطب صفة الأمان المفترضة عن الأماكن التي يقتحمونها، ويستبدلونها بصفة الخوف والرعب التي باتت في كثيرٍ من الأماكن معهودة.
ويبدي الإسرائيليون قلقهم الشديد من أن أغلب عمليات الطعن والدهس تتم في مدنٍ كبيرة، كالقدس وتل أبيب وأسدود وحولون والخضيرة والعفولة والنقب وكريات جات، وعلى أبواب المستوطنات الخصينة كعتصيون وإيتمار وبيت إيل وكريات ملاخي، وهي مدن ومستوطنات بالنسبة للإسرائيليين نقية وغير مختلطة، ولا وجود فيها لفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي تخضع لكل أشكال الحماية والمراقبة، ومع ذلك فقد تكررت العمليات الأمنية فيها، ووصل الفلسطينيون إليها، ونجحوا في تنفيذ ما يريدون رغم الحامية التي يتبجح بها المسؤولون ويقولون عنها أنها كافية وحصينة.
يعترف الإسرائيليون أن الفلسطينيين شجعانٌ ومغامرون، إذ يستطيعون الوصول إلى كل هذه الأماكن التي تتمتع بكل أشكال الحراسة، وبعضهم يظن أن "الجن" يساعدونهم في الوصول، أو أن عندهم قبعات الإخفاء التي بواسطتها لا يستطيع أن يراهم أو يحس بهم أحد، وإلا كيف يصلون إلى الأماكن التي يريدون، وهم يختلفون عن المستوطنين الإسرائيليين في ملبسهم وشكلهم، ولسانهم ولونهم، فضلاً عن الفتيات المحجبات اللاتي يدل لباسهن على أنهن عربٌ ومسلماتٌ، ويتواجدن في أماكن ومراكز لا ينبغي أن يَكن هن وغيرهن فيه، ولكن السؤال المنطقي الذي يتبادر إلى الذهن فوراً، هو كيف وصل النشطاء الفلسطينيون إلى هذا المكان، وليس لماذا هم هنا في هذا المكان أو في غيره، لأن الإجابة على السؤال الثاني معروفة يقيناً، إنهم هنا لمهاجمة الجنود والمستوطنين وطعنهم أو دهسهم.
أما جهاز الشرطة ورجاله، فإن الخلاف قد دب بينهم، والمشاكل قد كثرت عندهم، فقد قدم أكثر من مسؤولٍ في جهاز الشرطة استقالته، طالباً إعفاءه من العمل، بعد عن عجز عن توفير الحماية وضمان السلامة للمستوطنين في منطقته، وبات بعضهم أحياناً عاجزاً عن تحقيق الأمن لنفسه وأفراد أسرته، وقد ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن ضابطاً في الأمن الداخلي، من المولجين حماية السكان، قد قتلت شقيقته طعناً بسكين فلسطين، قد أتبعها نفسه منتحراً، بعد أن بدا لعدة أيامٍ كئيباً ومنعزلاً، وغيره كثير ممن تعلن الدوائر الرسمية عن وفاتهم في حوادث طرقٍ، أو نتيجة أمراضٍ مستعصية، وغير ذلك من الأسباب التي تخفي وراءها الآثار النفسية للانتفاضة على المواطنين الإسرائيليين.
وهذا قائد شرطة الخليل يسرائيل تال يقول بعد مضي شهر واحد على الانتفاضة "لم نذق طعم النوم منذ شهرٍ تقريباً بسبب العمليات في هذه المدينة المستحيلة، ولا أدري إن كان يوجد تهدئة في الأفق"، ولكن شكوى هذا الضابط لم تعد شكوى خاصة أو حالةً فردية، وليست فقط بسبب ودوده في مدينة الخليل التي لا تهدأ ولا تنام، ولا تكف عن الثورة ولا عن عمليات القنص والطعن والدهس، وابتعاث رجالها وأبنائها إلى كل مكان، بل بات قطاعٌ كبير من العاملين في جهاز الشرطة يشكون مثله، ويسألون حكومة كيانهم عن المرحلة القادمة، وخاتمة الأحداث، والتصور الذي تراه الحكومة للخروج من هذا المأزق التي وضعت فيها نفسها وشعبها نتيجة سياستها الحمقاء وقراراتها الخرقاء.
الشرطة الإسرائيلية وضباطٌ كبار متقاعدون من السلك العسكري والأمني، يراهنون على أن الخروج من هذا المأزق وتجاوز الأزمة، ليس باستخدام القوة فقط، وليس عن طريق العنف، فالحل ليس في الأوامر الصادرة عن رئيس الحكومة أو رئاسة الأركان، أو دعوات قادة الأحزاب اليمينية والتكتلات القومية، فكلهم يسمح باستخدام القوة، ويعطي حملة البنادق تصاريح مفتوحة باستخدامها وإطلاق النار، ولو أدت إلى القتل أو الإصابة، ويعتقدون أن القتل يسكت الفلسطينيين ويخرسهم، أو ينقص عددهم ويخفض صوتهم.
هذه ليست هي الطريقة المثلى للحل، ولا هي السبيل الأنسب للنجاة، إنها كمن ساخت أقدامه في الوحل أو الرمال، فكلما حاول الخروج من مستنقع الوحل أو حقل الرمال، ساخت أقدامه أكثر، وغرق أكثر، وكذا هو المنهج العسكري المتبع، الذي يقوم على العنف وحده، ويتجنب الحلول السياسية والقرارات العقلانية، التي من شأن غيابها أن تزيد في دوامة العنف، وتعقد الحل، وتجعل الحياة بعد ذلك في البلاد مستحيلة.
لا شك أن الانتفاضة الفلسطينية قد أدخلت الإسرائيليين في دوامةٍ صعبة، وفرضت عليهم مفرداتٍ جديدة، وأجبرتهم على التفكير في اتجاهاتٍ أخرى، وهي تحمل كل يومٍ جديداً مفاجئاً، وتخلق تفاعلاتٍ غير متوقعة، تدفعهم للسؤال عن المصير والمآل، والمستقبل والخاتمة، وعن نتيجة عنفهم الأعمى وقسوتهم المفرطة، وتلهم الذي لا ينتهي، وظلمهم الذي لا يتوقف.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 24/12/2015
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]