((( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )))

بقلم: تيسير التميمي

صلوات الله ربي وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله ، يا أعظم الخلائق وأشرف النبيين ، صلوات ربي وسلامه عليك أيها الحبيب المصطفى ، يا من أنار للبشرية طريقها برسالة التوحيد ، قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } الأحزاب 45-46 ، فأخرجها من الظلمات إلى النور ، من ظلمات الجهل والجهالة والضلالة إلى نور العلم والهداية ، ونقل الأمة من الحضيض إلى القمة ، إلى الوسطية والخيرية ثم الريادة والسيادة ، فقد ولد صلى الله عليه وسلم في وقت ساد فيه الظلم والظالمون ولم يُعرف فيه العدل والإنصاف ، وكانت الإنسانية ـ وبالأخص العرب ـ في مرحلةٍ من أحطِّ مراحل تاريخها ، حتى لقد صار الظلم والقهر والتعسُّف والاستبداد والاستعباد من أبرز ملامحها وأوضح معالمها ، ولا مكان للخير والرحمة فيها ، فكان أعظم مولد على ظهر الأرض ، تهاوت به أركان الظلم وعروشه ورموزه من عليائها ، وانتشر العدل في أرجائها .
في ذكرى مولد الهادي البشير صلّى الله عليه وسلّم التي غمرتنا فيها النفحات الروحانية والمشاعر الإيمانية قبل يومين حري بنا أن نحتفل بهذه المناسبة الشريفة حق الاحتفال : بصدق الحب وبكمال الاقتداء والاتِّباع ، قال تعالى { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } آل عمران 31 ، فهذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية بأنه غير صادق في ادعائه حتى يتبع الشرع النبوي في أقواله وأفعاله وسائر نهج حياته ، والآية تخاطب كل من ادعى محبة الله تعالى مسلماً كان أو غير مسلم .
وفي شهر نزول الرحمة الإلهية بالولادة المحمدية حري بنا أيضاً أن نقيم المولد الحقيقي في أرواحنا وجوارحنا ؛ في مساكننا وأماكننا ، وأن نجعل أعمارنا وأيامنا كلها ربيعاً ؛ يولد فيه حبّه صلى الله عليه وآله وسلم عملاً وقولاً ومنهاجاً . فقد قام صلّى الله عليه وسلّم بأمر الدعوة إلى الله عز وجلّ بالحكمة والموعظة الحسنة والعمل الدءوب ، ففتح لها مغاليقَ النفوس ؛ ومكّن لها في الأرض ، وهذه سيرتُه العطِرةُ الشاملة بين أيدينا حافلةً بالجهاد والمجاهدة ؛ والصبرِ والمصابرةِ ؛ وممارسةِ الحياة تحصيلاً للآخرة ، فما أحوجنا في هذه الأيام العصيبة ؛ أيام الفتنة حالكة السواد التي نرى فيها الحليم حيراناً إلى القيام على أمر الدعوة إلى الله تعالى ودينه وشرعه على النهج النبوي والسنة النبوية والسيرة النبوية .
وجدير بنا كذلك الاستجابة لأمره وطاعته التزاماً بقوله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } الأحزاب 36 ؛ فهذا النهي يعم كل تشريع صادر عنه صلى الله عليه وسلم ، فإذا حكم فليس لنا أن نختار لأنفسنا غير حكمه فينا ، أما رفض قضائه ومخالفة أحكامه وتعاليمه فمعصية وضلال أعاذنا الله عز وجل وحذرنا منها لأنها صفة المنافقين ؛ الذين يأبون طاعته وتنفيذ حكمه فوصفهم بقوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } النساء: 61 ، فالإيمان الراسخ يوجهنا إلى السمع والطاعة ؛ قال تعالى { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } النور 51 ، كيف لا نفعل ذلك وهو الرحمة المستقرة الراسخة ، قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء 107 ، الرحمة الربانية التي أهديت إلينا فعمت جميع الأزمان والأكوان والأحوال ، بل وعمت جميع الناس أيضاً ، روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله { أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ، و أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة ، أو يقضي عنه ديناً ، أو يطرد عنه جوعاً ، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ شهرا ، ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام ، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل } رواه الطبراني وحسنه الألباني .
اعتاد المسلمون في معظم بقاع الأرض على مدى العقود الماضية أن يحيوا ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم بالاستعراضات الكشفية أو بالمحاضرات والندوات والأعمال الأدبية وغيرها من المظاهر الاحتفالية ، فهل هذا هو المطلوب منهم لإرضاء ربهم ونيل شفاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم ؟ إن الاحتفال الحقيقي بهذه المناسبة العزيزة يكون بفقه سيرته العطرة والتأسي به ، فالاقتداء به صلى الله عليه وسلم أكمل ما يكون الاقتداء ليس من المندوبات والنوافل فقط ، بل هو فريضة من فرائض الدين وأصوله ، قال تعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } الأحزاب21 .
فواجب علينا أن نقتدي به في عبادته ومداومته على طاعة الله تعالى وإكثاره من التضرع والدعاء إليه ، ونقتدي به في رضاه وغضبه ، وفي ثباته على دعوته وتمسكه بها وعدم تنازله عنها على الرغم من كل الضغوطات والإغراءات والمساومات التي مورست عليه وعلى أهله وأتباعه ، نقتدي به صلى الله عليه وسلم في حبه أصحابه وحرصه عليهم ، فقد كان يتفقدهم ويهتم بشؤونهم ويؤثرهم ويسأل عنهم حتى أن أحدهم ليظن أن ليس من هو أكرم منه عليه أو أحب منه إليه ، فقابلوا حبه هذا بحب إيماني عميق راسخ في القلوب لا يتزعزع ويهون أمامه الموت ، فافتدوه بالمهج والأرواح في مواقف الشدة والضراء والبأساء ، وهانت عليهم نفوسهم وهم ينافحون عنه ويَذُبُّون الخطر في مواطن الحرب والجهاد ، فآثروا حياته على حياتهم ونجاته على نجاتهم إلى الحد الذي أذهل الأعداء ، فهذا أبو سفيان يقول بعد أن رأى هذا الإيثار بنفسه [ ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ] .
نقتدي به صلى الله عليه وسلم في تأكيد القيم الروحية والتربوية والوجدانية والشعورية التي هي أصل العلاقات الإنسانية ، وفي تأكيد السلوك الإيجابي البناء لإعمار الكون وتعميره وعمارته ولو عند انقطاع الأمل في الحياة ؛ فلا يأس مع الحياة أبداً ؛ قال صلى الله عليه وسلم { إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل ] رواه أحمد والبخاري في الدب المفرد . فالدين ليس عزلة عن الحياة بل هو الحياة التي يتكامل فيها العمل والعبادة ؛ بل يكون العمل فيها عبادة ، فهذا السلوك اهتداء بقوله تعالى { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ اْلآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ... } القصص77 .
نقتدي به صلى الله عليه وسلم في التقوى وحسن التعامل مع الناس فهذا محك الدين والإيمان لأن الدين المعاملة ، وقد علمنا ذلك ووجهنا إليه بقوله { إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعْهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق } رواه الحاكم في المستدرك ، وقد شهد له ربه جل وعلا بحسن الخلق فقال سبحانه { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } القلم 3 ، فأخلاقه العَلِيَّة الرَضِيَّة جعلت الناس يتعلقون به أشد التعلق ، فهذه أخلاق أعظم رجل في البشرية كلها ، وهذا قلبه العظيم الذي يفيض بالرحمة والعلم واللطف والحكمة ، وقال صلى الله عليه وسلم { إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقاً } رواه البخاري ، فقد نشأ الحبيب صلى الله عليه وسلم من أول أمره إلى آخر لحظة في حياته متحلياً بكل خلق كريم مجتنباً كل وصف ذميم { فلم يكن ‏صلى الله عليه وسلم ‏سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً } رواه البخاري ، وكيف لا يكون كذلك وهو الذي قال { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } رواه البخاري ، كيف لا يكون كذلك وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه وصنعه على عينه .
فواجبٌ على الآباء أن يربوا أبناءهم على هذه المحبة العاطفية والروحية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي معيار صدق الإيمان القلبي ، لأن محبته أكبر حافز على الامتثال لما جاء به ، قال صلى الله عليه وسلم { فو الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده } رواه البخاري .
إن متابعته صلى الله عليه وسلم هي المحك الذي يتميز به أهل الحق والهدى من غيرهم ، فمن نصح نفسه ورغب بفلاحها ونجاحها فعليه بالهَدْيِ النبوي ليدخل في أتباعه وشيعته ويكون من حزب الله قال تعالى { إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ } المائدة 55-56 ، فلندعُ أنفسَنا في هذه الذكرى إلى نقلة نوعية وحقيقية في الإيمان والفكر ، في العمل والسلوك ، ولنتخذ الخطوة الحازمة لبناء أنفسنا ومجتمعنا من جديد .

الشيخ تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
www.tayseer-altamimi.com ، [email protected]