رغم القرار الأخير الذي اتخذته دول الاتحاد الأوروبي، والذي رحب به العرب والفلسطينيون، واعتبروه قراراً إيجابياً في الوقت والمضمون، وأنه يأتي متضامناً مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لأشكالٍ متعددة من الظلم والاعتداء من قبل العدو الإسرائيلي، خاصةً في ظل تزايد حالات الإعدام الميدانية خلال أيام الانتفاضة، وهو القرار الذي قضى بمقاطعة دول أوروبا للبضائع ومنتجات المستوطنات الإسرائيلية، وذلك بوضع إشارة مميزة عليه، وبالقدر الذي لاقى فيه هذه القرار ترحيباً عربياً وفلسطينياً كبيراً، فإنه تعرض للانتقاد والاستنكار الإسرائيلي، وطالبت الحكومة الإسرائيلية عبر نائبة وزير الخارجية قيادة الاتحاد الأوروبي بالتراجع عن هذا القرار والاعتذار عنه ووقف العمل به، ووصفته حينها بأنه عنصري ومعادي للسامية.
إلا أن دول أوروبا التي تبدو شكلاً أنها تؤيد حق الفلسطينيين في دولةٍ ووطنٍ، وتعارض سياسات الحكومة الإسرائيلية، وتستنكر ما تقوم به من أفعالٍ وأعمالٍ تصفها بأنها أعمال عدائية بحق الشعب الفلسطيني، فإنها تقوم بأعمالٍ أخرى مناقضة، وتتصرف بطريقةٍ مغايرة، تهدم ما بنته، وتخرب ما سوته، وتعيدنا إلى سنوات الخمسينيات والستينيات عندما كانت دول أوروبا الغربية تحتضن الكيان الصهيوني، وتمده بالسلاح والمال والتقنية الحديثة، ليكون الأقوى في المنطقة، والأطول ذراعاً والأكثر تسليحاً، ويكون قادراً على صد أي هجومٍ أو اعتداء عربي عليه، وكأنها بتصرفاتها الجديدة تعتذر لحكومة الكيان، وتبدي لها ندمها عما اتخذت من قراراتٍ قاسية في حقهم، وهي لذلك تحاول تعويضهم عما لحق بهم.
فقد تبين أن بريطانيا في ظل الانتفاضة الفلسطينية تمد الكيان الصهيوني بالقنابل الغازية المسيلة للدموع، وهي من الأسلحة المصنفة بأنها سامة، والتي يترتب على استخدامها أضرار كثيرة، وتعرف الحكومة البريطانية أن جيش الكيان الإسرائيلي يستخدم هذا النوع من القنابل في قتل الفلسطينيين خنقاً، ومع ذلك فإنها تمضي قدماً في توريد هذه الأنواع من الأسلحة إليها، ولا تلتفت إلى ما تسببه من أضرار وما تلحقه من خسائر في صفوف الشعب الفلسطيني، الذي يرفع صوته عالياً في وجه المجتمع الدولي، بضرورة كبح جماح الاحتلال ومنعه من استخدام هذه القنابل التي تقتل وتخنق أكثر مما تفرق وتفض.
كما ذكرت تقارير أخرى عن التعاون الكبير بين الجيش البريطاني وجيش الكيان فيما يتعلق بصيانة بعض المعدات العسكرية الإسرائيلية، وعن تزويدهم بذخائر إنجليزية، وخوذٍ وخراطيم غاز ووسائل قمع المتظاهرين وتفريق التجمعات والحشود، رغم وجود بعض القرارات التشريعية التي تمنع الحكومة من القيام بتوريد أي أسلحة أو معدات قد يستخدمها جيش العدو في مواجهة الفلسطينيين وصدهم.
كما كشفت صحفٌ هولندية أن حكومة بلادهم تزود الكيان الصهيوني بكلابٍ بوليسية هولنديةٍ شرسةٍ وقوية، ومدربة تدريباً عالياً على مواجهة التجمعات وتفريق المظاهرات وملاحقة المطلوبين والفتك بهم، وقد تبين أن الحكومة الهولندية توردها إلى الكيان الصهيوني، وهي تعرف أنه يستخدمها في مهاجمة الفلسطينيين وقتلهم، وقد رصدت وسائل إعلامية عديدة قيام بعض هذه الكلاب في ملاحقة فلسطينيين ومطاردة النساء وتمزيق ثيابهن ونهش أجسادهن، ومع ذلك تستمر هولندا في تسليم الكيان الإسرائيلي أجيالاً جديدة من كلابها المدربة والمؤهلة لمهاجمة الإنسان والفتك به وإحباط عمله بسرعةٍ كبيرة، وقدرةٍ هائلة.
علماً أن وزارة الدفاع الهولندية تصنف هذا النوع من الكلاب بأنها عنيفة، شأنها شأن قنابل الغاز ورذاذ الفلفل والأسلحة النارية، وتعرف أن لها قدرة كبيرة على مهاجمة البشر والحيوانات الأليفة، إلا أنها ترفض إدراج هذه الكلاب ضمن قوائم المواد الممنوع تصديرها إلى الكيان الصهيوني، وتعتبر نفسها غير مسؤولة عن تطوير الإسرائيليين لــ"كلاب الخدمة الهولندية" وتدريبها وتأهيلها لتصبح سلاحاً فتاكاً ووسيلة عنفٍ قاتلة، خاصةً أنها تورد هذا النوع من الكلاب لهم منذ أكثر من 23 عاماً، ولم تصلها خلال السنوات الماضية شكاوى فلسطينية أو عربية لتعيد النظر في سياستها التصديرية لهذه الكلاب.
وقد اعترفت ليسبيت زيجفيلد وهي محامية حقوق الإنسان العالمية بهذه الجريمة، وأكدت أن الحكومة الهولندية تورد هذا النوع من الكلاب إلى الكيان الإسرائيلي، وأبدت استهجانها واستنكارها لما تقوم به الحكومة الهولندية، وصنفت هذه الجريمة بأنها جريمة عنصرية تمس الحقوق الإنسانية، وطالبت الحكومة الهولندية بوقف تزويد الكيان بها، وإصدار تشريعٍ خاصٍ يمنع مستقبلاً أي شكلٍ من أشكال التعاون العسكري والأمني مع الكيان الصهيوني في كل ما يمس حياة ومصالح الشعب الفلسطيني، واعتبرت أن هذا السلوك الهولندي يكشف عن ازدواجيةٍ مرفوضةٍ وغير أخلاقية تقوم بها بعض الحكومات الأوروبية، التي تدعي أنها تستنكر الممارسات الإسرائيلية العدوانية بحق الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تطالب فيه الحكومة الإسرائيلية باحترام القانون والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
أما الحكومة الألمانية فهي موافقة على قيام جيشها بإجراء مناورات وتدريباتٍ على سيناريوهات اقتحام بلداتٍ عربية واحتلالها، أو السيطرة على سكانها، ومنعهم من القيام بأي أعمال عنفية معادية، وهي لذلك تبني مع جيش الاحتلال نماذج لمدنٍ وبلداتٍ ومخيماتٍ فلسطينية، وتضع معه الخطط والتصورات لآليات وأشكال اقتحامها وإحباط أي أعمالٍ معادية فيها أو خارجة منها، علماً أن الحكومة الألمانية تستكمل توريد منحتها لدولة الكيان الصهيوني من غواصات الدولفين الاستراتيجية، حيث ستسلمها الغواصة السادسة، وهي ستزودها في الأيام القليلة القادمة بمنظومة صواريخ ومنصاتٍ خاصةٍ لحماية المنشآت النفطية البحرية في البحر المتوسط، وهي تعلم أن هذه الآبار النفطية محل نزاعٍ واختلافٍ حول شرعية ملكية الكيان لها.
غريبٌ هو حالنا نحن العرب والفلسطينيين إذ نصدق الشعارات الأوروبية الجوفاء، ونصغي إلى تصريحاتهم الكاذبة، ومواقفهم الزائفة، وننسى أنهم وفي القلب منهم بريطانيا كانوا السبب في نكبة فلسطين، إذ منحت اليهود على حساب الحق العربي الفلسطيني وعداً بإقامة كيانهم على أرضنا العربية، وأنهم الذين مكنوا الكيان وزودوه بالسلاح ليحتل الشطر الشرقي من مدينة القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان وغور الأردن، إنهم يصلون ماضيهم بحاضرهم ولا يغيرون من الواقع شئ، فالكيان الصهيوني بالنسبة لهم هو القلب والمهجة والروح، وهو الأهم والأعز والأقرب إلى نفوسهم وطبائعهم.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 27/12/2015
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]