في الأيام الأخيرة من عام 2004، كنت على تواصل مع إذاعة الأقصى، أنقل عبر الخط الهاتفي تفاصيل اقتحام الدبابات الإسرائيلية لحي الأمل في خان يونس، كان المذيع ذكياً، هو يسأل عن أدق التفاصيل، وأنا أنقل له التحركات العسكرية حتى علا ضجيج الدبابات، وسيطر على المكان أزيز الرصاص، حينها قلت للمذيع: أنا لا أسمعك، فقد اقتحم الجنود الإسرائيليون بيتي، ولا أسمع إلا وقع أقدامهم على السلالم، وأغلقت الهاتف.
سيطر الجنود الإسرائيليون على البيت، واتخذوا منه موقعاً عسكرياً متقدماً، بعد أن فتحوا في الطابق العلوي عدة فتحات، وراحوا يطلقون من خلالها النار على كل من يتحرك في المنطقة، أما نحن سكان البيت؛ أربعة عشر شخصاً، فقد حشرنا الجنود في غرفة واحدة، ولا حق لنا بممارسة الحياة إلا بإذنهم، فقد صاروا هم أصحاب البيت، وصرنا نحن الغرباء.
كنت حزيناً وفرحاً، حزين لأفراد أسرتي السجناء معي في غرفة واحدة، ولوجود بناتي تحت رحمة الجنود، وفرح في الوقت نفسه لأننا ما زلنا في بيتنا، وما زال بيتنا قائماً، أربعة أيام بلياليها من العذاب، على أمل انسحاب الجنود في كل لحظة، ولم يخطر في بالنا عشية رأس السنة 2005، أن يأمرنا الجنود الإسرائيليون بالخروج من البيت ليلاً، والابتعاد عن المكان.
وداعا ًيا بيتنا، وداعاً يا أمننا واستقرارنا، سيهدمه اليهود مجرد خروجنا منه، حفاظاً على أمن المستوطنين وسلامة المستوطنات، هذا ما توقعناه، لذلك بكت أمي كثيراً، وقبلت جدران البيت قبل أن تخرج، فقد عرفت الهجرة سنة 48 حين غادرت قريتها يبنا، وبكى الجميع، وأنا أتلمس الحيطان مودعاً، وأفكر بالمصير المجهول، وأنا أتخيل بيتي كومة من الركام.
خرجنا من بيتنا مكرهين، وكلما ابتعدنا عن البيت خطوة كلما نزف القلب دمعة، خرجنا من البيت ونحن نسترق السمع على صوت انفجار يؤكد لنا نسف البيت، فكانت المفاجأة بعد يومين، حين انحسب الجنود الإسرائيليون من المكان على عجل، وعادوا إلى موقعهم العسكري الحصين الذي كان يبعد عن بيتي مسافة مائتي متر تقريباً.
ولكن المفاجأة الكبري كانت بعد تسعة أشهر، يوم 12/9/2005، من العام نفسه، حين دمر اليهود مستوطناتهم بأيديهم على بعد مئات الأمتار من بيتي، لقد انسحبوا تحت ضربات المقاومة من قطاع غزة، وكان الفرح برؤية الموقع العسكري الإسرائيلي الأضخم على مستوى الشرق الأوسط، وقد انطفأت أنواره، وفر منه الجنود، لقد صار دماراً في غضون تسعة أشهر، ليظل بيتي قائماً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن سيف المقاومة هو البتارُ، وأن عدونا الإسرائيلي سيصير رماداً إن أحرقته النارُ.
عشية رأس السنة، وبعد تسعة أشهر من هذا اليوم، أبشركم في قطاع غزة بنهاية الحصار، وأبشركم بتواصل الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية، وتصاعدها الذي سيرعب المستوطنين اليهود، وأبشركم باختلال موازين القوى الإقليمية لصالح قضيتنا السياسية، وأبشركم بارتباك الحسابات الإسرائيلية لتصير القدس عصية على التطويع، وتغدو مدن الضفة الغربية عصية على التنسيق الأمني، وأبشركم بسحق الانقسام تحت أقدام التوافق الوطني على مبدأ تصعيد المقاومة، ليمشي الشعب الفلسطيني كله مرفوع الرأس خلف قيادته الجديدة الشجاعة الجريئة، يمشي بعزم وثبات على طريق تحرير الأرض من دنس الأعداء.
وكل عام وشعبنا الفلسطيني مبدعٌ لأشكال المقاومة، رائع الوفاء، دائم العطاء.
د. فايز أبو شمالة