لم أر في اختلاف البعض مع سمير القنطار أي عيب أو غرابة، لكنني رأيت أن الاختلاف عليه أمر غريب ومحزن ومعيب. فأن يختلف البعض مع القنطار كما يختلفون مع غيره، فأمر عادي وصحي وإيجابي، اما أن يختلفوا عليه، فليس عادياً وليس صحياً وليس إيجابياً، بل إنه عجيب وغريب ومحزن ومؤلم ومعيب؛ بل إن الأكثر إيلاماً أن يتعدى الاختلاف مع القنطار أوالاختلاف عليه حد تمترس البعض في نقطة ليصوب منها سهامه، قاصداً قتله حتى وهو مقتول، ناسياً أو متناسياً أن القنطار إنما قضى شهيداً على يد الإجرام الصهيوني.
متى نكف عن معادلة "من ليس معنا فهو علينا"؟َ! متى نكف عن نظرية إما كذا وإما كذا؟! متى نفهم أن هناك ألواناً أخرى غير الأبيض والأسود، وأن بين هذين اللونين الضدين ألوان أخرى يمكن أن يكون لها كبير اعتبار أو على الأقل بعضه؟! متى نبتعد عن أحادية النظرة؟! ومتى نتفلت من استبداد الفكرة؟! متى ندرك أو نستدرك أن النظر بعين واحدة ينتج فكرة عوراء عرجاء؟! ألم ندرك بعد، أو نستدرك، أن احادية النظرة أو إستبداد الفكرة إنما تحددنا - بل وتحشرنا – في زاوية واحدة من زاويتين مختلفتين متضادتين؟! كيف لنا أن نطلق حكماً باتاً وقاطعاً لا مجال لدحضه أو تفنيده أو رده أو الطعن فيه، أو حتى الاستئناف عليه؟! كيف لنا أن نصدر حكماً نهائياً يقضي بأن "فلان" خارج عن الدين او خائن للوطن؟! واستناداً على ذلك، كيف يمكن للبعض أن يصدر على القنطار العروبي الفلسطيني الثائر حكماً يقضي بأنه ليس (مناضلاً) وليس (شهيداً)؟ إن صح حكم كهذا، فمن يستحق وصف "المناضل" ومن هو "الشهيد"؟!
كم أزعجني وأحزنني وعمق الغصة في داخلي ان أرى منا من ينصب نفسه حاكماً فيصدر ضد المناضل العربي اللبناني الفلسطيني الشهيد سمير القنطار، حكماً قطعياً يؤكد إما جهله أو تجاهله أن هذا الثائر الكبير قد اغتاله عدونا وعدوه الصهيوني الذي قال بعد تنفيذ جريمة اغتياله إنه " قد أغلق مع القنطار حسابه". ألا يفكر وألا يتذكر من يطلق ضد القنطار حتى وهو شهيد سهامه بغية قتله بعد استشهاده أن الفارس العاشق لفلسطين قد كان في مكنته أن يعيش حياة رغد وهناء و"فنطزية" لو أراد واختار طريقاً آخر غير طريق الثورة والمقاومة وعشق فلسطين والانتماء لها وللعروبة؟!
إن كل من يخلع على هذا الفارس البطل أوصافاً لا تليق بعظم منزلته وصخامة مكانته وعلو قامته، عليه ان يقرأ ويفهم ليعرف أن هذا الثائر كان قد انخرط في المقاومة وهو ابن الرابعة عشرة، وأنه قضى في سجون الاحتلال الصهيوني تسعة وعشرين عاماً، وأنه خرج من سجون الاحتلال بموجب صفقة تبادل مع حزب الله ليعود إلى خط المقاومة من جديد، دون أن يفكر أو يتجه نحو الراحة أو الاستراحة أو القعود، وأن دولة الاحتلال العسكري الصهيوني حينما اغتالته في جرمانا بريف دمشق إنما تكون قد نفذت قراراً مبيتاً عندها منذ زمن بعيد ليس بسبب انتمائه لحزب الله بعد خروجه من الأسر، وليس كما
يظن البعض بسبب تأييده للنظام السوري ضد الشعب، وإنما بسبب خطة المقاوم لدولة الاحتلال، وبسبب قبوله تكليف حزب الله له بهمهمة التخطيط لتأسيس حركة مقاومة مسلحة تنطلق من الجولان المحتل، ولأن بوادر إنجازاته ونجاحاته في التخطيط لإنشاء هذه المقاومة لتحرير الجولان السوري المحتل قد بدأت في الظهور، وهو ما اعترفت به دولة الاحتلال.
لماذا لا يحاول أولئك الذين يخلعون على المناضل العروبي اللبناني الفلسطيني العاشق لفلسطين، سمير القنطار، أوصافاً لا تليق به وبقامته التي صنعتها بطولاته وتضحياته... لماذا لا يحاولون إخراجه من حسبتهم الحزبية أو الطائفية أو الفئوية الضيقة والمنغلقة على نفسها، والتي تستند على اختلافهم أو اتفاقهم سواء مع الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، أو الرئيس السوري، بشار الأسد؟!
إن ما ينبغي لطلاب الحرية وكل الذين يقاتلون في سبيلها أن يذكروه ويحتفظوا به ويتذكروه أن الثائر البطل سمير القنطار قد قدم لفلسطين ما لا تستطيع الكلمات ان تعطيه من الوصف ما يستحق، بعيداً عن كل ما يمكن أن يقال من دقائق التفاصيل، لا سيما وإن هذا القنطار الثائر ظل في ساحة القتال والمقاومة مقيماً، ولم يغادرها حتى بعد أن خرج من سجون الاحتلال حيث قضى تسعة وعشرين عاماً سرعان ما عاد إليها (إلى المقاومة) حتى قضى في أحضانها وفي سبيلها شهيداً، وهو الذي حكمت عليه دولة الاحتلال مؤبدات خمساً إلى أن أفرجت عنه في صفقة تبادل في عام 2008.
وبعد، ألا يستحق هذا الثائر الشهيد الذي فشلت دولة الاحتلال في اغتياله ست مرات لتنجح في السابعة، الأمر الذي يؤكد الخطر الكبير الذي كان يشكله القنطار على مشروعها الصهيوني الاستيطاني التوسعي كما يؤكد إصرارها على قتله للتخلص من الخطر الكبير الذي كانت تتوقعه منه ؟! وألا يستحق هذا الشهيد البطل منا أن نتخذه مثلاً أعلى في النضال العربي عامةً والنضال الفلسطيني خاصةً، لا سيما وإنه على الرغم من أنه لبناني الجنسية، درزي الطائفة، إلا انه لم يكن – البتة – حزبياً ولا طائفياً، بل كان عربياً لبنانياً فلسطينياً انخرط في النضال الفلسطيني عبر جبهة التحرير الفلسطينية حين كان عمره أربعة عشرة عاماً؟! وألا يستحق هذا الشهيد منا أن نرفعه – نحن شعب فلسطين على وجه الخصوص – على أعناقنا، وقد استشهد بذات الصواريخ الصهيونية التي تستهدفنا وتقتلنا كل يوم... صواريخ محكمة التصويب صوبتها نحو القنطار طائرات صهيونية انطلقت من مراقدها في دولة الاحتلال لتحقق بقتله مرادها ومراد مشروعها الصهيوني ومراد قادتها الصهاينة الذين أدركوا مدى خطورة القنطار عليها وعليهم، لا سيما وإنه – كما لم يغب قط عن دولة الاحتلال التي كانت ترصد القنطار وتتعقبه وتحصي عليه أنفاسه – كان يؤسس بنجاح واضح لحركة مقاومة مسلحة لحساب فتح جبهة الجولان السوري المحتل أمام مقاومة ذات نص مفتوح؟! وألا يستحق هذا القنطار الذي ينسجم وزنه وفعله مع قوله واسمه ( قنطار) وهو الذي قضى في الأسر من أجل فلسطين ثلاثة عقود احتمل خلالها من صنوف التعذيب وأشكاله ودرجاته ما لا يطاق، وذلك بعد تنفيذه ضد المحتل الإسرائيلي - وهو في السابعة عشرة من عمره - عملية فدائية هجومية كبيرة في نهاريا قتل فيها ستة من الصهاينة كان من بينهم عالم الذرة داني هاران؟! وأليس مخجلاً ومؤسفاً ومؤلماً ومحزناً، بل ومعيباً، أن ينبري البعض في الهجوم على حركة حماس لمجرد أنها وصفت سمير القنطار في بيانها بأنه "المناضل" وأنه "الشهيد"، قائلةً فيه ما استحق، بصفته نموذجاً مشرفاً ومشرقاً لمقاوم صلب وعنيد ضد الاحتلال الصهيوني؟! وبعد كل ما أتينا عليه من أسئلة محرجة وجارحة ذات إجابات نقدية كاشفة، فإننا نوجه تساؤلات استوحيناها من مقالة للدكتور عدنان الحديدي، بعنوان: "العدل التاريخي". ألم يستوقفكم – كما استوقف الحديدي وكثيرين واستوقفني – ذلك الاصطفاف الصهيوني وراء عملية اغتيال القنطار؟! ألم يستوقفكم ذلك الإجماع
الصهيوني على وصف عملية اغتيال القنطار بأنها "العدل التاريخي"؟! ألم يستوقفكم قول زعيم المعارضة الصهيونية، ييتسحاق هرتزوغ: "إن العالم أفضل دون القنطار الذي لقي جزاءه، وإن العملية تصفية حساب قديم في رقبته، وما حدث هو من باب العدل التاريخي"؟! ألم يستوقفكم قول أفيجدور ليبرمان، رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" المتطرف: "إن الحساب أغلق بمقتل القنطار"؟! ألم يستوقفكم قول وزير الإسكان، قائد المنطقة الجنوبية الأسبق، نواف جالانت: "إن عدلاً تاريخياً قد حصل، فكان يجب إغلاق هذا الحساب والخلاص منه. مغادرة القنطار لهذه الحياة أمر مفرح"؟! وألم يستوقفكم ترحيب عائلة عالم الذرة، داني هاران، الذي قتل مع خمسة صهاينة آخرين في عملية نهاريا التي قادها القنطار عام 1979، والتي اعتقل بموجبها، حيث قالت:" إن عدلاً تاريخياً قد تم، فكان يجب إغلاق هذا الحساب بالخلاص من القنطار"؟! وزيادة على ما سبق من تساؤلات، ألا يجدر بالوطنين والغيارى والمخلصين من بني يعرب وأبناء فلسطين أن تستوقفهم وصية القنطار التي خطها بيده في 19/3/2015، مستهلاً إياها بقوله تعالى: "أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"، والتي نورد فيما يأتي أجزاءً منها كما كتبها، حيث قال:
"منذ إختياري لطريق النضال والجهاد في سبيل رفع الظلم عن فلسطين وأهلها، ولدفع الظلم والموت عن أهلنا وشعبنا في لبنان، كنت على يقين أن هذه الطريق الذي إخترته بقناعة تامة نهايتها النصر أو الشهادة،... الشهادة على الأرجح هي التي ستسبق النصر، ولأنني عاهدت كل المؤمنين بحرية فلسطين أنني لم أعد من فلسطين ألا لكي أعود إليها،... أمضي وأنا على ثقة أن هذه المسيرة الجهادية لن تتوقف ولن تتراجع ولن تحيد عن بوصلتها فلسطين،... أسأل الله أن أكون قد وفيت عهدي ووعدي لشهداء الوعد الصادق، لأهل فلسطين، لجمهور المقاومة في لبنان... وأقول لكل المحبين لهذه المقاومة أن شهادتي وشهادة أي أخ في هذا الخط على يد العدو الصهيوني تعتبر دافعاً إضافياً لهذه المسيرة إلى الأمام..... إلخ" أما آخر الكلام، فقد احتضن سمير القنطار ولفعه استشهاد يليق به.
بقلم: الدكتور/أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة