لعل من المهازل التي تعيشها أوساط السلطة ومحيطها في الضفة الغربية حين تثار معركة حول المرسوم الرئاسي الذي أصدره محمود عباس بتعيين مجلس أمناء جديد لمؤسسة محمود درويش بدلا من مجلس أمناء المؤسسة السابق. وذلك باعتباره قرارا تعسّفيا مخالفا للقانون.
علما بأن الذي فعله الآن بهذا التعيين هو نفسه الذي فعله في تعيين أمناء المجلس السابق بمرسوم رئاسي. ولكن لم تثر في حينه علامة سؤال حول عدم احترام القانون أو الأعراف عند تأسيس المؤسسات واختيار مجلس أمنائها من قبل الأعضاء المؤسّسين. وقد قُبِل المرسوم الرئاسي الأول وهو من الطينة ذاتها للمرسوم الرئاسي الثاني الحالي. ومع ذلك فهذا المنطق كله "تغميس خارج الصحن".
على أن المهزلة ليست هنا، في جوهرها. لأن من غير المعقول أن تنشغل السلطة ومحيطها من المثقفين والسياسيين بمناقشة دستورية مرسوم رئاسي أو إثارة ضرورة احترام سيادة القانون. وذلك في وقت تخوض فيه الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، انتفاضة دخلت شهرها الرابع لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، وإطلاق كل الأسرى وكسر الحصار عن قطاع غزة.
هذه الانتفاضة، موضوعيا، تجاوزت كل الأوهام التي أحاطت بقيام سلطة في ظل الاحتلال واستشراء الاستيطان وتهويد القدس، وانتهاك حرمات المسجد الأقصى والمقدسّات الأخرى الإسلامية والمسيحية.
فهذه الانتفاضة اندلعت باعتبارها البديل الاستراتيجي لسياسات اتفاق أوسلو والمفاوضات والتسوية. وذلك بعد أن فشلت السياسات الأخيرة فشلا ذريعا، ولفظت أنفاسها الأخيرة. ولم يعد يجدي معها التنفس الصناعي.
الكل يذكر تلك المقولة الخرقاء التي طرحها سلام فياض رئيس وزراء سلطة رام الله بعد الانشقاق عن حكومة إسماعيل هنية ذات الأغلبية في المجلس التشريعي. فإلى جانب الانقسام الذي مثلته حكومة سلام فياض راح حضرته يعلن استراتيجيته لإقامة دولة فلسطينية تتحقق بعد أن تُبْنى مؤسسات سلطة رام الله، وتُثْبِت للعالم أن لدينا مؤسسات حديثة مكتملة تحترم القانون. ولهذا أصبحنا مستحقين لِنُعْطَى دولة.
عاشت سلطة رام الله ومن حولها من مثقفين وسياسيين على بناء المؤسسات التي ستفضي تلقائيا حين تتحقق إلى قيام الدولة. طبعا أثبتت السنون وهمية هذه المقولة (نظرية سلام فياض) بل دجلها، بل سخفها إذ كيف يمكن بناء مؤسسات سلطة واحترام القانون تحت سيطرة قوات الاحتلال والتوسّع في استيطان الضفة الغربية وتهويد القدس.
وأثبتت السنون كذلك وهمية مقولة عباس - فياض - دايتون منذ 2007 حتى الآن، بأن التنسيق الأمني مع الاحتلال لضرب خلايا المقاومة من كتائب عز الدين القسّام إلى سرايا القدس إلى كتائب شهداء الأقصى، ثم إجهاض كل نضال مقاوم حقيقي للاحتلال والتعهد بإجهاض أيّة انتفاضة، سوف يفضي إلى بناء الدولة الفلسطينية.
لقد بانت وهمية هذه المقولة، بل دجلها، بل سخفها، إذ كيف يمكن أن يؤدي التنسيق الأمني حين يُثبَّت الاحتلال ويكرَّس الاستيطان إلى أن يُكافأ بإعطائه؟ ثم لماذا تُعطى الدولة حين يُثبت التنسيق الأمني للإدارة الأمريكية وللقيادة الصهيونية جدارته في الحفاظ على أمن الاحتلال والمستوطنات والكيان الصهيوني؟ ولهذا فإن النتيجة الواقعية لتلك المقولة كانت استمرار السلطة والتنسيق الأمني في ظل استمرار الاحتلال والاستيطان.
ولهذا جاءت الانتفاضة لتطرح نفسها الاستراتيجية الوحيدة الصحيحة في الظروف الراهنة فلسطينيا وعربيا ودوليا لتحرير الضفة الغربية والقدس وفك حصار قطاع غزة وإطلاق كل الأسرى، وبلا قيد أو شرط. أي بلا صلح أو مفاوضات أو اعتراف. وهو ما سيوجِد أوضاعا تسمح بمواصلة العمل لتحرير كل فلسطين من النهر إلى البحر ومن الناقورة إلى رفح.
وهو ما يحمل في طياته انتهاء استراتيجية سلطة أوسلو والتنسيق الأمني والمفاوضات وحلّ الدولتين (التصفوي) أو حلّ الدولة الواحدة في ظل "دولة إسرائيل" الأسوأ، (والتصفوي كذلك).
من هنا يصبح من المهزلة أن تثار معركة سياسية - ثقافية داخل السلطة وما بين مثقفيها حول المرسوم الرئاسي بتعيين مجلس أمناء مؤسّسة محمود درويش. وذلك بدلا من اعتبار مرحلة اتفاق أوسلو انتهت، وكذلك مرحلة سلطتها وما صحبها من مقولات وهمية أو من مساع لبناء المؤسسات والحرص على "سيادة القانون".
أصبح الذين يناقشون هذه القضايا في ظل الانتفاضة واحتدام الصراع ضدّ الاحتلال مثل حال الذين راحوا يناقشون في فيينا عدد الملائكة الذي يمكن أن يقف على رأس الإبرة فيما فيينا تواجه الحصار.
بالتأكيد المشكلة الأولى هنا لا تكمن في الذين احتجوا على مرسوم الرئيس، وإنما في المرسوم نفسه الذي فتح معركة جانبية متجاهلا، بدوره، معركة الانتفاضة ضدّ الاحتلال والاستيطان.
لكن إذا كانت المسؤولية الأولى تقع على عاتق الرئيس في فتح المعركة الجانبية فما ينبغي لأحد أن يخوض فيها بدلا من الحفاظ على شعار "لا صوت يعلو على صوت الانتفاضة"، ولا معركة جانبية تُفْتَح وعندنا معركة الانتفاضة.
منير شفيق مفكر إسلامي عربي