ما أصعب أن يغيب الابن الفلسطيني عن أمه حتى إن علمت أين يذهب، وما أبطأ الوقت حين يرسل الأب ابنه في أمر ويتأخر بعض الوقت، وقد تفقد الحياة معناها وتضيع بهجتها وتظلم في عيون الأهل حين يغيب الابن في سفر بعيدٍ حتى يعود، أما إذا أصاب الابن رتبة أسير يدخل الأهل جهنم الشوق والفقد والحرمان، ولولا أمل في اللقاء وعودة الحياة إلى مجاريها لفضلوا الرقود برحمة الله على لوعتهم وخسارتهم، أما إذا استشهد الابن فلا الأرض أرض ولا السماء سماء، ولا تسع الدنيا الأم أو الأب أو الأخ والقريب، ويكاد ينفجر القلب ويحترق على آخر لمسة وآخر نظرة، ولولا الإيمان بقضاء ومكانة الشهيد ما طاق الوالدين الحياة، فكيف إذا حرموا من جسده الطاهر ولم يعلموا عنه في أي أرض انتهى إليه الحال.
حين ينتقل المسلم إلى أول منازل الآخرة تصبح الروح بأمر الله بين يد الملائكة، ويبقى على المسلمين أحكام ومراسم يجب أن يقوموا بها بحق الجسد، أولها الغسل وهو تنظيف الجسد من أي شوائب بقيت عليه، وتطهيره للقاء الله كما كان يتطهر للقائه بالصلاة، ثم يكسى ثوبا أبيض تفاؤلا بأن تكون نهايته صافية كثوبه، وصلاة بلا ركوع أو سجود يدعوا بها الناس للنبي والميت وأنفسهم، ثم أن يتبعوا جنازته إلى القبر إعلانا وتكريما، ثم مواراته الثرى إجلالا وتعظيما لسنة رسول الله، وحفظا لذكراه في قلوب أحبائه، ولا يكفن الشهيد لأنه اكتسب وساما أحمر لا يرتضي به الدنيا بأسرها ويصلى عليه تكريما لمن يصلي عليه، وكل هذا فرض كفاية لا يسقط عن الأمة إلا إذا قام بها بعض أبنائها.
تضمن اتفاقية جنيف الرابعة والبروتكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف، الذي يعتبر جزءاً من القانون الدولي العرفي الملزم لجميع الدول، يرفض بشكل صريح دفن من يسقطون في أعمال القتال إلا باحترام وعلى الدول اتباع إجراءات دفن تتناسب وثقافة القتلى الدينية، وبمجرد أن تسمح الظروف، عليها واجب تقديم بيانات ومعلومات وافية عنهم، وحماية مدافنهم وصيانتها وتسهيل وصول أسر الموتى إلى مدافن الموتى واتخاذ الترتيبات العملية بشأن ذلك، وتسهيل عودة رفات الموتى وأمتعتهم الشخصية إلى وطنهم.
يخرج الشاب الفلسطيني إيمانا بحقه في الدفاع عن إنسانيته التي يمسها الاحتلال يوميا في كل نواحي حياته وثورة على الظلم والقهر الذي يزرعه فيه مع كل نفس يقتحم صدره ويفر من شدة الألم في قلبه، فالوطن مسلوب ولا أمل بحلٍّ يحفظ كرامةً أويبني مستقبلا، والأقصى تحت سياط العدو وتهديداته العلنية وليس في الأمة من يغضب وتحمر عيونه في وجه العدو ولو لم ينتصر له، وهو في كتاب الله آية تُتلى يتعلمها مع الألف والباء، يمر كل يوم على الحواجز حاملا روحه على كفه، لا يعلم، لعل مزاج الجندي يسمح بأن لا تخلع فتاة نقابها إرضاء لغروره، أو أن يجادله شاب دبت فيه الرجولة فيقتلهم وتظهر بصور استشهادهم سكين بجانب الجثمان، ويقف أمام استفزاز كرامته من قطعان المستوطنين والاعتداء على كل مقدساته قولا وفعلا، فهل سيهتم بتهديدات الحكومة الإسرائيلية وإن وصلت لتدمير الحياة التي يعرفها بكل تفصيلاتها!.
وقد تنتهي ملحمة حياة الفلسطيني بوابل من رصاصات مذعورة، وادعاءات هجوم بسلاح أبيض أو حجر على جندي يفترض بأنه مدرب على تقدير الخطر والرد المناسب، وتبدأ من بعدها قصة ألم وجرح يضمد بالملح يخوضها الأهل اقتحاماً وتنكيلاً واستدعاءاً واعتقالاً وتهديداً بهدم البيت ثم احتجاز جثمان الشهيد في ثلاجات ثم في مقابر الأرقام، وهي ضرائبٌ جماعية يشترك في دفعها أهل الشهيد ثم أقاربه ثم المجتمع الفلسطيني بأسره، بعد إغلاق الطرق وإعاقة المارة والتفتيش المهين بلا أدنى داع للشك،ومصادرة الأراضي وإغلاق المؤسسات الخيرية والعامة والبوابات الإلكترونية وغيرها.
رفضت إسرائيل تسليم شهداء الوطن إستكمالا لعذاب أهلهم ومحاولة لقتل روح المبادرة لدى الشباب، والمس بقيمة الشهادة في نفوس المسلمين، ولكن هيهات، فقد وجدوا أهل الشهداء موحدين على قلب رجل واحد في خيام الاعتصام يأبون إلا حقهم بدفن أبنائهم دون قيد أو شرط، ووجدوا الشباب تعلو همتهم وتزداد عزيمتهم للوصول لأهدافهم لا يبالون بشيء مهما كان، فاقترحوا تسليمهم ليلاً وأن يشيعهم عدد محدود من الناس، وما كان للأهل أن يقبلوا أن تمس كرامة أبنائهم وتضحياتهم، فخرجت مسيرات ضخمة وأقيمت وقفات تضامنية ودخلت القضية كل بيت واستوطنت كل قلب وأردفت كل دعاء، وتنازل العدو شيئا فشيئا إلى أن استلم الأهل أبناءهم مكللين بالغار ملفوفين بالعلم الفلسطيني.
وخرجت الخليل بكل أطيافها السياسية والاجتماعية في إحدى أعظم المسيرات يتقدمها الأبطال الذين أصروا على الثبات على حقهم الديني والإنساني والأخلاقي بدفن أبنائهم، وأوصلوهم في زفة ستكون الأجمل بين كل زفات عرسان فلسطين تزينها أعلام جميع الفصائل السياسية في حالة من التلاحم الوطني والشعبي والالتفاف حول خيار المقاومة والثبات على الثوابت الوطنية.
أسامة نجاتي سدر