غزة ليست بخير

بقلم: محمد يوسف حسنة

في العام 2012 كتبت مقالاً بعنوان “وقفوهم إنهم مسؤولون”، عن واقع الفقر والفقراء في قطاع غزة، وكنت أتمنى أن المشاهد والأرقام التي تحدثت بها خلال المقال أن تكون قد تغيرت للأفضل، وتحدث نقلة نوعية في حياة الفئات المهمشة والضعيفة في قطاع غزة.
إلا أننا افتتحنا عام 2016 بمزيد من المآسي وخيبات الأمل، ومشاهد وفيديوهات صادمة للعديد من الأسر التي تحيا تحت خط الفقر المدقع، فهذا قد قام بإنشاء ما يُشبه حمام زراعي واتخذ منه مسكن، وهذا استصلح خرابة ليصنع منه منزلاً بلا جدران أو سقف، وهذا يحيا بين الأموات في المقابر، وهذا مُطارد من المستأجرين والدائنين، تُلاحقه متطلبات الحياة ويقف عاجزاً عن تلبية الحد الأدنى من الحياة الكريمة له ولأسرته، وهذا ذهب لقتل نفسه حرقاً لأنه لم يستطع أن يتحمل عدم قدرته على الإنفاق على بيته، وليته لم يفعل فقد ترك ابنا وزوجة تقرع باب المؤسسات دون أن يُغيثها أحد أو يستجيب لها أحد.
غزة النازفة من جراح عدوان 2014 والغارقة في بحر الهموم والكوارث، تعيش في أسوء ظروفها وتحيا دون أن يُقدر قادتها وفصائلها حجم المأساة الحقيقة، غزة المقاومة، غزة العزة التي يتغنى بها الجميع، حزينة مكلومة ضعيفة هشة، غزة ليست بخير، فهى تئن من الوجع مابين مطرقة الاحتلال وسندان الحصار والخذلان، يرفض جزء ليس باليسير أن يتحدث عن غزة بهذا الشكل وكأن الضعف يُعيب، وكأن غزة عليها أن تتحمل الضربات دون صُراخ، ودون أن يكون لها نصيب في المشاعر والاحاسيس، وعليها أن تتقبل أن يقتل الفقر أبنائها ويغتال ابتسامة أطفالها دون أن تقول لقد تعبت، فكيف لمن يُقارع المحتل ويتغني قادته بالصمود أن يتحدث أن في خاصرة غزة خنجر موجع، لا تراه ولا تُشخصه عيون قادتها، وتتجاهله باستمرار، فغزة في نظرهم ما وجدت إلا لتُقاوم وتصبر وتحتسب وكأن على غزة ألا تعرف من الحياة إلا الكوارث والأزمات والحروب وليس لها أن تشتكي، أو حتى تُظهر ضعفها الاجتماعي.
وبحجة أن الحديث عن الضعف لا يليق بغزة المقاومة، وغزة رأس الدفاع عن قضايا الأمة، تُطحن عائلات فقيرة وتتفشى البطالة ويُعاني الخريجون، ويضيع صوتهم وسط زحام صراخ الشعارات وغياب الأولويات.
حدثني رئيس مجلس إدارة برج سكني، أنه قام بالإعلان عن الحاجة لحارس برج، تفاجأ بالحجم المهول من الطلبات المتقدمة لشغل الشاغر، المصيبة أن 75% من المتقدمين حملة شهادة بكالوريوس، منهم مهندسين، وقد اتصلت أم مهندس متقدم وهى تبكي بحرارة وترجو رئيس مجلس إدارة البرج قبول ابنها المهندس، فقد نجحت ورغم الفاقة والحاجة بتخريج 3 من أبنائها مهندسين وجميعهم دون عمل.
حسب مسح القوى العاملة للربع الثالث من 2015 والذي قام به المركز الفلسطيني للاحصاء فقد بلغ عدد المتعطلين عن العمل في قطاع غزة 201,900 فرد  بنسة بلغت 42.7%، فيما تحدثت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين عن تقدم 231 ألف شخص لشغل وظائف لديها، أكثر من 36 ألف منهم حملة بكالوريوس، وأكثر من 30 ألف حملة دبلوم، و 260 من حملة الماجستير، وعشرات من حاملي الدكتوراة، بالإضافة ل 128 ألف عامل متعطل عن العمل.
فيما بلغت نسبة الفقر 60%، وقد ارتفع مستوى انعدام الأمن الغذائي لدى الأسر الفلسطينية في قطاع غزة فقد بلغ 49% في صفوف المواطنين فيما بلغ 45% في صفوف اللاجئين.
فيما مازال آلاف العائلات دون مأوى نتيجة تهدّم منازلهم في عدوان 2014 وحاجتها للإعمار، بالإضافة لمعاناة أكثر من 2000 عائلة ممن يعيشون فيما يُشبه العشوائيات والخرابات والتي لا تقيهم برد الشتاء ولا تمنع عنهم حرارة الصيف.
مشكلات جمّة تعصف بقطاع غزة نتيجة الحصار والاحتلال اللذان يقفان عائقان أمام أي فرصة حقيقة لإحداث تنمية مستدامة في القطاع، ويعطلان البدء بعملية إعمار حقيقية تساهم في تخفيف الأوضاع الانسانية التي تزداد سوءاً في قطاع غزة، ناهيك عن إمكانية تجدد العدوان بشكل مستمر الأمر الذي يجعل الاستقرار والتنمية حلماً بعيد المنال.
ورغم تعدد صور المأساة، وتفاقم أزمات المواطنين وفقد الأمن الغذائي والصحي والتعليمي، إلا أن غياب الأولويات تُعد السمة الأبرز في قطاع غزة، فقد شهد شهر ديسمبر المنصرم على سبيل المثال العديد من المؤتمرات وورش العمل التي تهدف للتمكين السياسي والوعي والجندرة، والغريب أن الفئة المستهدفة قد لا تكون تملك ثمن المواصلات لحضور تلك المؤتمرات، فعن أي تمكين سياسي أو توعية يجري الحديث في حين يفتقد المنوي تمكينه أبسط مقومات الحياة.
وتجد المناطق تتسابق بافتتاح الملاعب المعشبة بمقايس دولية، تبلغ تكلفة إنشائها 100 ألف دولار لكل ملعب، وقد تم افتتاح العديد منها حديثاً، فيما يجري بناء مساجد يبلغ الموازنة المرصودة لأحدها ثلاثة ملايين دولار، قد تذهب في دقيقة واحدة إن ما قرر العدو شن عدوان جديد، وقد حدث أن تم بناء مسجد بمبلغ يزيد عن 700 ألف دولار، وبعيد افتتاحه بأشهر قليلة تم تدميره بالكامل.
فيما تتسابق لجان الزكاة بجمع التبرعات بشكل أسبوعي لصيانة واعمار مساجد الله، فيما من يعبد الله يئِنّ من الجوع والحاجة فأيهما أولى مساجد الله أم عباد الله؟
قد يُقال أن ذلك سياسة مانحين ولا يمكن تغيرها، ولكن التجربة تقول بأن المانح يُغير من قناعاته إن وجد أن المنفذ والطالب للاحتياج يوجه بصورة علميه ومهنية، فلا سباق هنا لمن ينفذ مشاريع أكثر بل لمن يخدم الناس أكثر، وينفق في حاجاتهم.
كثير من المشاريع مكررة وتُنفذ بناء على رؤية مناطقية لا تخضع لتخطيط خدماتي أو نظرة شمولية، في غياب واضح للتعاون على مبدأ التكامل ما بين المؤسسات والحكومة في غزة، بل أن المؤسسات الحكومية في غزة تتصرف في أحيان كثيرة كأنها جمعيات خيرية، ويختلط لديها دور الرقابة والتنفيذ حسب ما تقتضيه المصلحة.
إن عظم التحديات وجسامة المخاطر وتعدد الأزمات تجعل من التعاون لأجل التكامل ضرورة، ومن توحيد الكلمة ورفع الاحتياج بناء على متطلب حاجات الناس وبالنظرة الشمولية لكل قطاع غزة لا حسب نفوذ مناطقيه أولوية.
غزة اليوم مدعوة لأن توحد صوتها وتطالب الجهات المانحة للإنفاق فيما يُقلل أثر الأوضاع الانسانية الكارثية، ويُحسن حياة الناس، فلا تحدثوا سيدة عن العنف الأسرى وحقها في اختيار الشريك وهى تخشى الذهاب إلى حمام منزلها لأن لا جدار فيه ولا سقف، إن تأمين بيوت الفقراء بتحسين البيئة السكنية وتوفير حياة كريمة لهم أولى من ورش التمكين وأولى من بناء المساجد وأولى من افتتاح الملاعب المعشبة.
التعاون من أجل التكامل وتنسيق وتوحيد الجهود يوحد الكلمة ويعظم التدخل ويحل المشكلات من جذورها، والمطلوب قبل هذا وذاك أن تشعر القيادة بعظم المأساة وأن تقتنع أن غزة ليست بخير، فتوصيف وضع غزة بالصعب لا يُشخص المشكلة، وبعض القادة يظن أن الأمور ليست بالسوء الذي يتم الحديث عنه.
أمام الصورة القاتمة الجميع مطالب بالوقوف أمام مسؤولياته  فرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية مطالبة بضرورة الضغط لرفع الحصار عن غزة، وفتح معبر رفح وتحويله لمعبر تجاري، والضغط في اتجاه تسريع عملية الإعمار، وقيادة الفصائل وعلى رأسها حركة حماس التي تحكم قطاع غزة مطالبة بتفقد أحوال الفقراء في ظل البرد القارص ليُجرب القادة المبيت يوماً تحت سقف مهترئ وجدران شبه آيلة للسقوط، دون حمام مناسب أو كهرباء منتظمة ثم ليُحدثونا عن انجازات افتتاح الملاعب وورش العمل والمؤتمرات.
والمؤسسات المحلية والدولية والجهات ذات الاختصاص في قطاع غزة مطالبين بالجلوس ووضع رؤية مشتركة تُفرض على المانحين لانتشال غزة من الموت البطئ، ليتم تنحية الاعتبارات والمصالح الخاصة ولتكن مصلحة المواطن الأولوية.
أدركوا غزة قبل أن تصبح فعلاً غير قابلة للحياة، انقذوا غزة قبل أن تنفجر الفئات المهمشة والضعيفة، فغزة ليست بخير.

بقلم م. محمد يوسف حسنة.