لماذا ثار العز بن عبد السلام على حاكم دمشق وقد ولّاه خطابة الجامع الأموي؟ سؤال لا شك أن كثيرا من علماء المسلمين - الذين دعوا لدعم المرابطين في المسجد الأقصى بالمال - يحفظون جوابه، ويفهمون أن "العز" أنكر على حاكمه تحالفه مع الصليبيين، وثار عليه من على المنبر الذي أصعده إليه. أمّا لماذا لُقب العز بن عبد السلام ببائع الملوك في مصر لما رحل إليها، فهو سؤال ربما يستنكره بعض الذين تفقّهوا بفقه الواقع "وتربّوا" على طاعة ولي الأمر ولو تحالف مع الأمريكان في الحرب الصليبية على الإسلام، ولو انخرط في حلف الناتو، ولو توجّه بطائراته لليمن أو بمدرعاته للموصل ثم أدار ظهره لليهود، بل طبع علاقاته معهم.
لا شك أن المثال يوضح المقال، ولذلك من المفيد تذكير الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بشخصية العز بن عبد السلام كنموذج للعالِم الثائر الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ولو أغضب الحكام وخسر منصبه، وخصوصا مع إطلاق الاتحاد حملة عالمية لدعم المرابطين في المسجد الأقصى، والتضامن معه، حتى يستحضر علماؤه طبيعة الدور المطلوب منهم ومن كافة علماء المسلمين، وحتى يتذاكروا فيما بينهم أن المسجد الأقصى يتطلب نصرة لا مجرد تضامن، وأن النصرة هي عسكرية الطابع، بطبع قضية فلسطين كأرض محتلة من قبل اليهود، وأن الدعم المالي لا يمكن أن يحرر المسجد الأقصى ولا أن يعرقل مخططات تهويده.
إن الإسلام الذي يحمله العلماء لا يجيز للأمة الإسلامية أن تترك المسجد للمرابطين العزل، الذين يتصدون بصدورهم العارية لاقتحامات اليهود بعدما تقاعس أصحاب الدبابات والصواريخ والطائرات، بل بعدما انشغلوا في توجيه تلك الأسلحة لقتل المسلمين ضمن الحرب الأمريكية على ما تدّعيه من إرهاب، وبعد أن سكت كثير من العلماء عن فضح أباطيلهم ومؤامراتهم.
وبكل أسف استحضر اتحاد العلماء فقه اليتامى والأرامل والمطلقات بدل فقه الجهاد عند "الاجتهاد" بما يتوجب على الأمة نصرة للمسجد الأقصى، فحوّل مفهوم النصرة العسكرية إلى الكفالة المالية، وغفل أن هؤلاء المرابطين الأبطال ليسوا أرامل ولا أيتاما بحاجة إلى "كفالة بمبلغ ستمئة دولار شهريا"، بل هم أصحاب قضية، وليسوا تجارا أو موظفين حتى يجعل الاتحاد رباطهم "مهنتهم وشغلهم". وهذا الفقه المدّعى هو ضرب من التبّني الباطل لنهج الاسترزاق من قضية فلسطين، وتقليد "لفقهاء" منظمة التحرير وبناتها الفصائلية بدل تقليد العلماء المجاهدين.
أليست مهنة الجيوش التي يتقاضون عليها الرواتب وتُسخر لها مقدرات الأمة الإسلامية هي رد العدوان وخلع المحتلين! فلماذا لا يذكّر العلماءُ أصحابَ المهنة الطبيعية، وحملةَ الرتب العسكرية بواجبهم الذي يتقاضون عليه الأجر، بدل ابتداع مهنة تحرّف قيم النضال وتحوّله إلى وظيفة، وبدل تحريف القيم العليا في الرباط لتصبح طريق استرزاق؟
ويتموضع الاتحاد عند حد التعريف بما يجري في المسجد الأقصى، مستوعبا ضوابط الحكّام من حصر القضية في معارك إعلامية أو قانونية، مع أن المبتدئ في دراسة الفقه الإسلامي يدرك أن الصراع مع المحتل اليهودي ليس معركة قانونية أو إعلامية. أيعقل أن علماء الاتحاد الإسلامي لا يفقهون الموقف الدولي ولا يدركون طبيعة الحل العسكري لقضية فلسطين؟!
إن بشاعة التوظيف السياسي للفتاوى ولمواقف العلماء التي تغطي عورات الحكام لا يمكن أن تُستر بالعمائم واللحى، ولا شك أن المسلم الأبيّ يبحث عن هامات العلماء الأفذاذ الذين تهزّ مواقفهم عروش الملوك، لا الذين تُكتب فتاواهم على أوراق الدولارات وعلى شيكات التمويل النفطي لتسند العروش فوق أكتاف الشعوب المضللَّة.
وهذا القرآن الذي يحفظه العلماء ويتذاكرون أحكامه قد بيّن أن النصرة الحقيقية للمسجد الأقصى وللأرض المحتلة تعني القتال في سبيل الله لتحرير الأرض لا "مجرد التصفيق!" للمستضعفين وهم يرابطون، وقد قال الله سبحانه: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾، أما أن تترك مهمة النصرة للمستضعفين في الأرض، ويتم تحويلهم إلى موظفين فهو ابتداع نهج مناقض لثقافة القرآن ولنهجه في الجهاد ضد المحتلين.
وهذه نصيحة شرعية للعلماء أن يستلهموا مواقفهم من وحي الكتاب، ولا يضبطوا فتاواهم بالمساحة التي يتيحها الحكام، وأن يستحضروا قيمة القصص القرآني - للعظة لا مجرد التلاوة - وقد سرد مواقف العلماء من بني إسرائيل ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾، لتستيقظ فيهم دوافع الإيمان وتحركّهم حرارة العقيدة، لعلّهم يدركون حينها خطورة كتمان الحق، وعاقبة أكل المال السياسي مقابل الفتوى التي تتجاهل جهاد الجيوش ووجوب النصرة العسكرية، وقد حذّرهم الله سبحانه من ذلك في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
إن الفتوى الشرعية أمانة تنوء بحملها الجبال الشاهقات، وهي إخبار بالحكم الشرعي المستند إلى دليل شرعي من الوحي لا من تعليمات الأنظمة المستبدة، ولا يصح أن يكون الإخبار بحكم الله - القاهر فوق عباده - تنفيسا عن نوازع الحكام الأقنان ولا تعبيرا عن رغباتهم في استعباد الشعوب.
لقد آن للعلماء أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، وأن يدركوا أن الجهاد ضد اليهود (وضد كل المحتلين) هو ذروة سنام الإسلام، وأن الدولارات لا تبيح المحظورات، ولا تعفي من الواجبات، ولا تغير الأولويات.
الدكتور ماهر الجعبري