قبل أن يطوي العام الحالي صفحته يكون تعداد سكان قطاع غزة قد وصل إلى مليوني نسمه، وتكون بذلك الكثافة السكانية قد تخطت حاجز الخمسة آلاف مواطن لكل كيلومتر مربع، بما يعادل عشرة أضعاف مثيله في الضفة الغربية، الأرقام التي تضمنها البيان الصحفي للإحصاء الفلسطيني واللجنة الوطنية للسكان في يوليو من العام الماضي، عشية اليوم العالمي للسكان تفرض علينا التوقف حيالها بكثير من التدقيق وبخاصة ما يتعلق منها بقطاع غزة، حيث يشير التقرير إلى أن 43% من سكان القطاع هم من الفئة العمرية "0 _ 14 سنة"، فيما نسبة سكانه ممن بلغت أعمارهم"65 سنة فأكثر" لا تتجاوز 2.4%، مما يعني أن المجتمع الفلسطيني في غزة مجتمعاً فتياً يتطلب من الحكومة معالجة احتياجاته ضمن رؤية واضحة للسنوات القليلة القادمة.
يشير التقرير إلى أن متوسط حجم الاسرة الفلسطينية انخفض على مدار السنوات القليلة السابقة من 6.4 فرداً عام 1997 إلى 5.2 فرداً عام 2014، إلا أن متوسط حجم الاسرة في غزة يبقى الأعلى "5.7 " ، ورغم أن نسبة البطالة في فلسطين مرتفعة بشكل عام "25.6%، إلا أنها مرعبه في قطاع غزة "41.6%"، وإن سلمنا جدلاً بصحة ذلك رغم أن الواقع قد يكون أكثر ايلاماً بأرقامه، فمن الضروري أن نضمن الخريجين الذين يلتحقون بجيش العاطلين عن العمل سنوياً.
الحكومات تبني سياساتها وتحدد أولوياتها استناداً على النتائج المسحية والاحصائية لمواطنيها ومتطلباتهم، وبرنامج الحكومة يبنى بالأساس على معالجة القضايا والمشاكل التي يعاني منها مجتمعها، ولا قيمة لبرنامج حكومي يفتقر إلى الحلول المنطقية والعلمية لمعالجتها طبقاً لأدوات قياس عادة ما يكون للغة الأرقام فيها القول الفصل، والحكومة تترجم برنامجها بلغة حسابية في موازنتها السنوية، لذلك عادة ما يحظى اقرار الموازنة الحكومية بالقسط الأهم من النقاش في البرلمان، ولا يكفي أن تعلن الحكومة التقشف في مصاريفها كي نعرف أنها تمضي بنا في الطريق الصحيح، خاصة وأن سياسة التقشف في المجتمعات النامية لا تعدو عن كونها لغة خطابية للإستهلاك الاعلامي ليس إلا.
لا شك أن الحالة الفلسطينية أكثر تعقيداً من أن يتم تناولها في سياق منطق الأشياء، حيث أن موازنة الحكومة تعتمد في جزء غير يسير منها على ما تقدمه الدول المانحة من دعم يصل حزينة الحكومة، والتي أحياناً تلتزم الدول المانحة بما تعدت به وفي أحيان أخرى تتنصل من ذلك، وبالتالي تبقى الحكومة الفلسطينية تلهث خلف تأمين ايرادات تغطي المطلوب منها، لكن رغم ذلك لا يمكن لنا أن نجعل من هذا شماعة نلقي عليها بكل اخفاقاتنا.
المشكلة لا تتعلق بتمرير الموازنة دون أن تخضع لنقاش مستفيض من قبل المجلس التشريعي الغائب، بل في غياب النقاش الموضوعي لبرنامج الحكومة الذي تفصح عنه الموازنة، فعلى سبيل المثال لا الحصر مطلوب من الحكومة أن تقدم لنا برنامجها لمعالجة مشكلة البطالة، وكيف ستفعل ذلك؟، وإن سلمنا بتعقيدات مشكلة البطالة، فهل قدمت الحكومة ضمن موازنتها ما يدفعنا للاعتقاد بأنها جادة في معالجة مشكلة كهرباء غزة؟، أم أن برنامجها وموازنتها سيخدم فقط اللغة الانشائية لمحاضر جلساتها، وأن سياسة التقشف لا تتعلق بمصروفاتها بقدر ما تطال خدماتها؟.
د. أسامه الفرا