أمام منزله الصغير شيد مكتبه على مساحة لا تقل عن تلك التي اقتطعها لمنزله، المكتب الذي يدير منه عمله الطوعي على مدار عقود عدة فرشه برمال يحرص على تنقيتها بين فترة واخرى، سقفه بسعف النخيل فيما يحتل موقد النار ركنا منه قلما تخمد ناره، ترك دلة القهوة بجوار جمر خبأه تحت الرماد، بجوار المكان الذي إعتاد أن يجلس فيه خلف موقد النار وضع مذياعه الصغير الذي تجمد مؤشره على تردد اذاعة لندن، يلجأ إليه كلما أراد أن يعرف ما الذي يدور في العالم المترامي الأطراف، فيما أخبار الوطن يتصفحها في دردشات ضيوفه، بمحاذاة مكتبه "عريشته" شيد مصلى ينتقل إليه مع ضيوفه في مواقيت الصلاة، يستحضر بمكتبة لوحة تراثية عاش حياته في كنفها، هي عالمه الذي سكنه منذ الانتداب البريطاني، على بعد أمتار قليلة منه كانت تنتصب الأسلاك الشائكة التي تحيط بالمستوطنة، ومن خلفها يتحصن جندي بسواتر رملية دوماً ما كان يطارد برصاصه خوفه، تم اقتلاع المستوطنة فيما بقيت "عريشته" راسخة في الأرض.
تحولت عريشته إلى قلعة في اصلاح ذات البين، يؤمها الجميع ممن استعصت عليهم حل خلافاتهم، يأتيه من ينشد تدخله في قضية ما ومن يحرص على استشارته في قواعد العادة والعرف، ينصت الحاج مريزيق ابو مغصيب "أبو كمال" اليهم بإهتمام فيما تتفحص عيناه الوجوه بذكاء فطري ينقب به عن الحقيقة، يزن كل كلمة بعناية فائقة، يصمت قليلاً ليضع الحكاية في قالب صخري نقشته خبرة السنين، لا يلبث أن يضع أمام ضيوفه بكلمات مقتضبة الحق الذي يراه، حتى وإن جاء مخالفاً لرغبة من لجأ إليه، لا مجال للتشكيك فيما يذهب إليه فلا ناقة له ولا جمل عند هذا أو ذاك، عادة ما يستخدم مصطلحات لا يقدر على فك طلاسمها سوى من يمتلك قدراً من أصول العادة والعرف، مما يضطره في أحيان كثيرة لتفكيك مفهومها بكلمات يسهل هضمها.
أسماء كبيرة في مجال اصلاح ذات البين غابت عنا، كانت منازلهم بمثابة بيوت للمتخاصمين، ولطالما عملوا بصمت على تفكيك الكثير من الأزمات التي كانت تعصف بالمجتمع، قد يكون للمجتمع القبلي الذي نعيش أدبياته دوراً في الاحتكام لقوانين العادة والعرف، وقد يكون لتراجع انفاذ القانون المدني في الحق العام والخاص ومتاهة الحكم في دهاليز الزمن ما جعل اللجوء لرجال الاصلاح سبيلاً لفض الخلافات، لا شك أن القامات الكبيرة في مجال الاصلاح التي رحلت عنا تركت فراغاً من الصعب اشغاله، سيما وأننا لن نتمكن حتى يومنا هذا من ترسيخ مبدأ سيادة القانون، ولم نعمل بشكل جاد على خلق ثقافة احترام القانون في مجتمعنا، والأهم أن الكثير من المواد القانونية طوعتها كل فئة منا بما تحقق مصالحها لا بما تحقق المصلحة الوطنية.
الخلاف بين حركتي فتح وحماس طال أمده، وتدخلت العديد من الدول في محاولة منها لإصلاح ذات البين، وتم التوقيع على جملة من الاتفاقيات بقيت حبراً على ورق، ولم تدخر الفصائل الفلسطينية جهداً في تحميل الطرفين ما آل إليه الوضع الفلسطيني دون أن تعمل بشكل جاد على تقريب وجهات النظر، والجميع دون استثناء يتناول في خطابه حرصه على تحقيق المصالحة وطي صفحة الانقسام، فهل نحتاج إلى "بيت ملم" محلي لا مصالح لصاحبه نحل فيه ما اختلفنا حوله؟، ألا يمكن أن نجد فيه حلاً للانقسام حتى وإن اعتمد الطريقة الخوارزمية بديلاً عن محلك سر وسنواته العجاف؟. قد نجد في "عريشة" الحاج مريزيق من القواسم المشتركة ما لا نجده في فنادق الخمسة نجوم.
د. أسامه الفرا