أكثر ما يدعو للغضب هو الفارق الهائل بين مستوى إدارة الصراع بيننا وبين الاسرائيليين، كيف يديرون صراعهم معنا وكيف ندير صراعنا معهم، كأننا في معركة البداوة، علينا الاعتراف أن حسن نوايانا التي سرنا محملين بها منذ عقدين لا تليق بالعمل السياسي بعد أن عبدت الطريق نحو جهنم السياسة، وعلينا الاعتراف أننا وسط كومة من الأزمات التي يتوجها غياب البحث عن الحلول وسط هذه الفوضى التي تعصف بالحالة الفلسطينية.
لسنا بخير، هذه الحقيقة التي يجب أن نقر بها بعد هذه الرحلة الطويلة التي حملت تاريخنا من القاهرة والكويت ثم عمان وبيروت ثم تونس والمنافي العديدة ثم إلى الوطن ونحن نحمل معنا المؤسسة التي حافظت على وجودنا منظمة التحرير الفلسطينية، لنكتشف أننا في الوطن أسرى لأضيق الخيارات وأسرى لاسرائيل وأسرى لصراعاتنا وأسرى لانقسامنا ولقمة عيشنا، كأننا وقعنا في مصيدة ثم بدأنا ننهش أنفسنا عندما اكتشفنا زحام المكان.
أخشى أننا بدأنا رحلة التيه الجديدة في الوطن بعد أن اعتقدنا أن السفينة رست على شواطئه لنتصارع كالقراصنة على الغنائم، لينتهي بنا الحال إلى كل هذه الخلافات التي يتسع مداها أكثر مع استمرار الفراغ وتصحر السياسة واغلاق اسرائيل نهائياً لملف الحل والمفاوضات، وإلا كيف نفهم ما حدث ويحدث لنا؟ كيف نفهم كل هذه الصراعات الضارية تحت الاحتلال إلى الدرجة التي أفقدت ثقة الكل بالكل، فلا حزب يثق بالآخر ولا فرد حتى يثق بالآخر، وتتزايد الشقوق والثقوب في الثوب الفلسطيني الذي كان يجب أن يغطي الجميع.
كيف تفهم هذا الانقسام؟ لا يسعفك كل تعليمك في العلوم والأدب والسياسة والهندسة والحساب ودروس السجن في حل اللغز، تحتاج ربما أن تترك كل ذلك ومعها عقلك جانباً، أو أن تكون قرأت عن صراعات التاريخ البدائية كي تتمكن من تفكيك عقد السياسيين وغرائزهم، الحقيقة أن ما يحدث عصي على التفسير والعلم، لأن لا علاقة بما يفعله السياسيون بالسياسة ولا علاقة بالهندسة بكل هذا الركام الوطني، ولا علاقة للحساب بتلك الحسابات الصغيرة التي أطاحت بشعب كبير ملأ الدنيا ضجيجاً بثورته، ولا علاقة بدروس الأدب حتى باللغة التي يتداولها الناطقون.
لا علاقة بالاحساس والضمير بما حدث ويحدث في غزة المهملة واليتيمة والتي سحقت تحت نهم السلطة، فمع أول لمعان لشعاعها وإذ بالبنادق تقرر مصير شعب كان يتوق لتقرير مصيره، وإذ به عاجز عن توفير أنبوبة غاز أو ساعة كهرباء، مليونان من البشر تبدو حياتهم ومصالحهم بلا قيمة أمام مصلحة الحزب الحاكم والفرد الحاكم والحزب غير الحاكم.
هل اعتقدت الفصائل التي اجتهدت طوال الأسابيع الماضية بالبحث عن حلول يؤدي لانعتاق الناس من خلال مبادرة المعبر أن حركة حماس ستتلقف المبادرة؟ في ندوة رعتها مؤسسة بيت الحكمة يوم الأربعاء الماضي واستضافت فيها ممثلي ثلاثة فصائل حاولت احداث اختراق في ملف المعبر، وتقدموا بمبادرتهم، وبعد أن انهوا مداخلاتهم التي حملت قدراً من التفاؤل، لأن حركة حماس كانت قد أعلنت أنها تدرس المبادرة بايجابية، سألتهم يومها: ماذا ستفعلون بعد أن ترفض حماس المبادرة؟ كان هذا قبل أن يرد الدكتور موسى أبو مرزوق على صفحته بأن "المبادرة فيها الكثير من الغموض وتحتاج الى الكثير من التفاصيل"، وهو يعرف أن تجربتنا مع التفاصيل كسرت ظهرنا وجعلتنا نزحف على بطوننا، اقترحت عليهم أن يذهبوا بعدها لمصر ليتسولوا لنا ما يمكن من القاهرة في ظل حالة اليتم التي نعيشها في غزة، فلا أحد معني بفتح المعبر وكل يستخدمه ضد الآخر.
لا أحد يعرف أين نحن ذاهبون، وهو السؤال الذي يحتاج إلى عرافة يونانية أو أحد المنجمين الذين يملؤون الفضائيات في الأسبوع الأخير من كل عام يقدمون تنبؤات السياسة في منطقة تمارس فيها السياسة بما يشبه قراءة الكف أو بقايا فنجان قهوة، بل ويتشابهان في اللون القاتم وتعرج الخطوط وعبثها.
كيف انحسر كل هذا التاريخ المتقد في العواصم والزاخر بالمعارك والشهداء إلى مجموعة معازل ومعبر مغلق، وكأن ذاكرة الجسد الفلسطيني اهترأت لتدخل في مرحلة فوضى الحواس، كأن عناوين ثلاثية أحلام مستغانمي تليق بوصفنا، وهي تكتب عن ثورة انتصرت ثم أكلت نفسها، تليق بثورة أكلت نفسها قبل أن تنتصر، دققوا فيما حدث ويحدث من انقسامات وانشطارات وصراعات وتحالفات ومؤامرات من تحت الطاولة وفوقها وحروب الوراثة الخفية والمعلنة.
إنها فوضى الحواس أو الفوضى الخلاقة أو غير الخلاقة التي سنحسم أمرها حين يفتح التاريخ خزائنه كاشفاً من الأصابع الخفية التي كانت تحرك بعضنا، والمأساة أن نكتشف لاحقاً أن بعضنا لم يكن أكثر من عرائس تتحرك بالخيوط وتتراقص على جثة الوطن وحاضره الذي تحول إلى جسد بلا روح، ألهذا وصلنا؟ أو بالأحرى أوصلنا أنفسنا إلى هذا الدرك، فقد قتلنا كل شيء يتحرك فينا حين أوقفت بندقية مغامرة الحياة في النظام السياسي بلا انتخابات، وقد يكون بالانتخابات مخرج للخروج من المأزق وهي أقل الخسارات إذا ما قرر الشعب لكن موات اللحظة طغى على كل شيء.
الوطن ليس بخير، والشعب ليس بخير، و"فتح" ليست بخير، و"حماس" ليست بخير، والمنظمة ليست بخير، والفصائل ليست بخير، ومن يقول غير ذلك فهو يكذب أو يواسي نفسه كما "ليزا" التي كانت تطلب من الروائي العالمي مكسيم غوركي أن يكتب لها رسائل الغرام لحبيبها، اعتقد غوركي أنها تطلب مساعدته لأنه كاتب، لكنه عندما اكتشف أن لا حبيب لها غضب منها، فبكت لتشرح له أنها امرأة ليست جميلة لا ينظر اليها الرجال، وكانت تواسي نفسها بهذه الحيلة، صنعت العاشق الوهمي الذي ولده بؤس اللحظة فصدقت وهمها وتعايشت معه، هل نحن في ذروة الوهم عندما نعتقد أننا بخير ولا نفعل شيئاً للخروج من وطأة الراهن؟
ولكن إذا كان السياسيون غير مبالين لهول اللحظة، وإذا كانوا راضين بنصيبهم أو بما قسم الله لهم من حصة في هذا الوطن أو عاجزين عن الخروج وانقاذنا، فلماذا لا يتحرك الشعب الأكثر تضرراً عن هذا العجز، لدينا أزمة في النظام السياسي، في السلطة وفي المعارضة اللتين تتحققان لأول مرة في الحكم لتقديم نموذج العجز العربي، ولكن يبدو أن لدينا أزمة أيضاً في الشعب، فالأزمة تعكس أزمة مجتمع وأزمة قيمه ومعادلاته وثقافته ومفاهيمه، هذا يمكن تلمسه عندما تتحرك في الشارع وتجد من يدافع عن كل هذا الاستبداد تعرف أننا نغرق أكثر وتعرف أننا لن نخرج بسهولة، فللانقسام حاضنة شعبية ومدافعون وجمهور وكتاب ومثقفون أيضاً، تصوروا ..؟
بعد أن سمع غوركي رواية ليزا أصابه الحزن تراجع واستمر بكتابة رسائل الغرام للعاشق الذي صنعه الوهم، يبدو أننا سنستمر في كتابة الوهم، إن لم تصدقوا استمعوا لخطابات المسؤولين..!!
أكرم عطا الله
2016-01-10