المدينة التي لا تعرف النوم، هكذا يعرفها أهلها كيف لا وهي جوهرة الساحل والمدينة السياحية الأشهر في تونس، وسوسة التونسية تختلف عن سوسة الليبيه، حيث الاخيرة ارتبطت في ذاكرتنا بقصيدة شعرية لشاعر مصري مغمور، تفتقت قريحته الشعرية ليرصد بكلماته مشهد الغروب وهو يلف المدينة ويحتضن صخرتها الشهيرة كأنه يصافح كليوباترا في مسبحها، عمل مدرس اللغة العربية "على محمد حمد" في بنغازي في الخمسينات من القرن الماضي دون أن يلتفت إليه أحد إلى أن أهدى قصيدته "من وحي سوسه"، التي جاءت فيما يقارب من خمسين بيتا من الشعر البديع، إلى الشاعر الليبي الكبير احمد رفيق المهدوي، بعدها بسنوات قليلة رحل مدرس اللغة العربية فيما اقتحمت قصيدته "من وحي سوسه" بإبداعها المنهاج التعليمي في ليبيا، وحطت رحالها أيضاً ضمن المنهاج التعليمي في قطاع غزة، وتركت القصيدة سؤالا: كيف استطاع جمال المدينة أن يفجر الطاقة الشعرية لمدرس مغمور جاءها زائراً فيما عجزت عن فعل الشيء ذاته فيمن يقيم في حواريها وأزقتها وينعم بأصيلها يومياً؟.
ما يعنينا هنا سوسه التونسية، التي تطل علينا هي الأخرى بوحي من السياسة البديعة، حيث احتضنت تلك المدينة الجميلة مؤخراً المؤتمر الأول لحزب تونس الحاكم "نداء تونس"، أهمية المؤتمر لا تكمن في النقاش الداخلي المتعلق بأدبيات الحزب الحاكم رغم أهميته، بل ما جاء في الجلسة الافتتاحية له، حيث أكد الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي "مؤسس الحزب" على أنه لا مكان لمن حاد عن الوسطية في حزب نداء تونس، والمهم أيضاً ما جاء في الكلمة التي ألقاها رئيس حركة النهضة "راشد الغنوشي" أمام المؤتمر، حين قال: ان تونس كالطائر يحلق في السماء بجناحين هما النهضة والنداء، وأن حزب نداء تونس صنع توازناً في الحياة السياسية، وأن التوافق هو ما تحتاجه تونس اليوم معرباً عن دعمه لسياسات الرئيس السبسي في البلاد.
تونس استطاعت بمهارة فائقة أن تعيد توازنها بسرعة، بعد الموجة التي انطلقت منها لتجتاح المنطقة، عرفت تونس كيف تتجنب الفوضى الخلاقة التي خطط ومول الغرب لها في المنطقة، استعادت عافيتها بفهم الشراكة السياسية ومفهوم تداول السلطة، أيقن الكل التونسي بأن اقصاء الآخر لن يجلب لتونس المستقبل الذي تطمح إليه، خرجت تونس من المستنقع الذي حاول البعض دفعها اليه، فيما تخبطت أنظمة ومجتمعات في المنطقة وغاصت أقدامهم في وحله، عرفت تونس ما لم تعرفه المجتمعات القريبة منها بأن القوة التدميرية للصراع على السلطة تفتك بمقدراتها وتعمل على تمزيق مجتمعاتها، وتعيد الاوطان سنوات طويلة إلى الوراء.
من المفيد لنا أن نتفحص التجارب المحيطة بنا، وأمامنا تجربة الاقتتال على السطة القائمة على مبدأ اقصاء الآخر وما نتج عنها من قوة تدميرية عصفت بالأخضر واليابس في مجتمعاتها، وبين تجربة اعتمدت قانون الشراكة السياسية والتوافق واستطاعت أن تنجو بمجتمعاتها من عين العاصفة وأن تستعيد عافيتها، آن لنا أن نؤمن بأن فلسطين بحاجة إلى حركة فتح موحدة وقوية وأنها بحاجة أيضاً إلى حركة حماس قوية وموحدة، وأن فلسطين كالطائر يحلق في السماء بجناحين فتح وحماس ومعهما كافة الفصائل الفلسطينية، ولنا من وحي سوسه درساً في الشعر البديع والسياسة الواقعية.
بقلم/ د. أسامه الفرا