ما يجري في العالم العربي في السنوات الخمس الأخيرة، التي يُفترض أنها سنوات (الربيع العربي) ليس حالة طبيعية يمكن نسبتها لسُنَن التطور التاريخي والحضاري للشعوب. كان من الممكن أن يكون الأمر كذلك لو أن ما يجري يتم بأدوات محلية خالصة ونتيجة انتقال من نمط من أنظمة الحكم والبناء الاجتماعي والفكري إلى آخر كما جرى مع الثورات في أوروبا كالثورة الفرنسية والروسية، أو كان ثورات ديمقراطية ضد أنظمة استبدادية، حيث لا تبدو الجماعات المعارِضة المسلحة اليوم أكثر ديمقراطية من الأنظمة ، كما أن ما يجري لا يندرج في سياق حركات التحرر الوطني ضد الهيمنة الأجنبية والأنظمة الموالية لها، فبعض حركات المعارضة يتم تمويلها ودعمها من الغرب الاستعماري، كما أن ما يجري ليس ثورة دينية ضد نظام علماني كما جرى مع الثورة الإيرانية، فقد بدأ الحراك الشعبي العربي من جماعات شابة لا تنتمي لجماعات الإسلام السياسي وعندما ركبت جماعات الإسلام السياسي موجة الحراك الشعبي كانت الاختلافات فيما بينها بل وقتالها مع بعضها البعض أشد ضراوة من قتالها واختلافها من النظام الحاكم .
عندما يتزامن ويترافق التطرف الديني والمذهبي وإحياء نزعات وانتماءات ما قبل الدولة، مع حالة الفقر والبطالة، مع غياب الديمقراطية، مع اجتماع السلطة والثروة بيد نخبة واحدة أو تتحالف نخبة الثروة مع نخبة السلطة، وعندما تتحكم السلطة والجماعات المسلحة بمصدر رزق المواطنين وبالمنابر الإعلامية، وعندما يعلو القرار الخارجي على أي قرار داخلي أو وطني ... عندما تتجمع هذه العناصر فلا نستغرب أن تكون المُخرَجات أو النتيجة على المستوى الوطني العام دمارا للبلاد وهلاكا للعباد، وتسطيحٌ للفكر وتهميشٌ للعقلانية، وانتشار خطاب سياسي ومفردات سياسية عقيمة وبائسة، وحالة ضياع وتيه، وعدم قدرة على استشراف المستقبل.
لا شك أنه في الحياة السياسية لا توجد حقيقة مطلقة ولا تنطبق معادلة الخطأ المطلق والصواب المطلق، فالحياة السياسية عالم يتميز بتعدد الآراء والتوجهات وبحق الاختلاف، وفي دول العالم الثالث حديثة النشأة تتعايش الدولة ومؤسساتها مع التشكلات الاجتماعية التقليدية السابقة للدولة. ولكن المشهد السياسي العربي اليوم لا ينتمي لا لعلم السياسة ولا لعالم السياسة بالمفهوم المُشار إليه وكما تعرفه المجتمعات الديمقراطية وحتى دول العالم الثالث الأخرى، بل تسوده حالة من الفوضى التي تضرب أطنابها في كل مناحي الحياة، فلا الإسلام هو الإسلام المتسامح المُوحِد الذي تعودنا عليه بالفطرة، ولا القومية العربية أيديولوجيا جامعة للعرب ولو على مستوى الضمير والشعور الجمعي، ولا الدولة الوطنية هي الدولة التي تجمع الجميع، ولا السلطة هي السلطة التي تحمي مواطنيها، ولا اليسار هو اليسار، ولا اليمين هو اليمين، وكأن لا تاريخ مشترك جمعنا لآلاف السنين، ولا أمل بمستقبل مشترك نصبو إليه ؟ .
إن كان ما يجري لا يندرج في سياق التطور الطبيعي للمجتمعات، بل انتكاسة لإرهاصات التحول الديمقراطي وبناء الدولة الوطنية والتنمية الشمولية وعقلنة ظاهرة التدين والتي راكمتها نضالات القوى الوطنية الديمقراطية التقدمية عبر السنين، وإن كان ما يجري ليس ثورات شعبية ولا ربيعا ولا ثورة الشباب وشبكات التواصل الاجتماعي ...، فهل هو مؤامرة خارجية ؟. لا شك بوجود مؤشرات بل وحقائق على الأرض تؤكد قوة التدخل الخارجي سواء من الغرب وعلى رأسه واشنطن أو من روسيا الاتحادية أو من إيران وتركيا أو إسرائيل، ولكن في المقابل فإن غالبية المتحاربين المشتبكين في القتال الدموي هم من أصحاب البلاد العربية نفسها أو من ذوي أصول عربية وإسلامية، والقتال والخراب والدمار يجري على أرض العرب، والقتلى والجرحى والمهجرون أيضا عرب ومسلمون، وكل العمليات العسكرية حتى التي تقوم بها الجيوش الغربية يتم تمويلها من المال العربي وعلى حساب مستقبل التنمية العربية .
إن كان المقصود بالمؤامرة أن أطرافا خارجية تخطط وأطراف داخلية تنفذ، فالمشكلة تكمن في العرب أنفسهم لأن بعضهم مشارك في التآمر بوعي أو بدون وعي ، وبعضهم الآخر إن لم يكن مشاركا فإنه لم يُحسن إدارة المعركة وفشل في تمتين الجبهة الداخلية لمواجهة هذه المؤامرات. الدول الأجنبية (المتآمرة) تدافع عن نفسها ومصالحها من وجهة نظرها، وحماية المصالح القومية والدفاع عنها ليس تآمرا إلا لمن يجهل معنى السياسة. فعن أية مصالح تدافع الأنظمة والجماعات العربية والإسلامية المُتَقَاتلة ؟. إن كانت هناك مؤامرة فهي تآمر العرب والمسلمين على بعضهم بعضا وهي أشد فتكا من تآمر الأجنبي عليهم ، والجاهل عدو نفسه .
أليس غريبا أن يتم تصفية أو تصفير الخلافات بين الدول العربية والإسلامية وأعدائها أو المفترض أنهم أعداء: إيران مع الغرب، وتركيا مع إسرائيل، والأنظمة العربية مع إسرائيل والغرب، وفي مقابل ذلك تتفجر الحروب والصراعات المذهبية والعرقية والسياسية ما بين العرب والمسلمين وبعضهم البعض ؟! .
قبل أن تكتمل السنوات الخمس تراجعت وانسحبت بهدوء وخجل مفردات الثورة والربيع العربي والتحول الديمقراطي، وتبدد الأمل بمستقبل زاهر قريب، وحلت محلها مفردات الإرهاب والحرب الأهلية والصراع المذهبي والتحالفات العسكرية والخراب والدمار والهجرة ودمار الاقتصاد، مع حالة من اليأس والإحباط ومزيد من الفقر مما يوفر حالة من التغذية الاسترجاعية للعنف. لا مفكر أو مثقف أو سياسي يملك اليوم خطابا متماسكا ومقنعا حول توصيف ما يجري في العالم العربي، فحالة الفوضى غير مقتصرة على ما يجري في الميدان من صراعات وحروب وتعدد الجبهات والأطراف المتصارعة والتباس وتداخلات الوطني والإقليمي والديني والدولي، بل فوضى وعدم يقين على مستوى الفكر والتنظير والقدرة على فهم ما يجري .
الفوضى التي تعم العالم العربي، الذي لم يعد عربيا، لا تقتصر على ميدان السياسة والحرب بهدف تفكيك الأوطان القائمة، بل هي فوضى تهدف للتشكيك بهوية المنطقة وبشرعية وجود الدول وبالأيديولوجيات الكلية الجامعة كالإسلام والعروبة وحتى الديمقراطية . إنها فوضى أدت لأثننة وتذرّر العالم العربي بمكوناته البشرية وهوياته الجامعة، وكأنها تروم أن تقول للعرب وللعالم بأن العرب والعروبة والقومية العربية مجرد أكذوبة ووهم، وأن الإسلام ليس دين توحيد وتسامح وبناء حضارة بل دين حرب وإرهاب وخراب ودمار، وأن العرب غير مهيئين للديمقراطية بل إن بنية العقل العربي لا تستقيم وتتوافق مع استحقاقات الديمقراطية ، وإن عقلية عرب اليوم امتداد لعقلية عرب عبس وذبيان وحروب داحس والغبراء، وحروب اليوم امتداد لمعارك الجمل وصفين وكربلاء.
لم ينج الفكر والثقافة من حالة الفوضى، حيث تشتت وتذرر المشهد الثقافي والفكري وتراجع معه الإبداع الذي يعبر عن، ويحمي، ويصقل الثقافة والهوية القومية والوطنية الجامعة. ولأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، فإن العقلاء من أصحاب الفكر التنويري الوطني إما اضطروا اختياريا للانسحاب من المشهد حتى لا يكونوا جزءا من الفتنة والحرب الأهلية، ولأن ثقافتهم وأخلاقهم لا تسعفهم للتعامل مع هكذا واقع، أو تم إبعادهم قسرا عن مواقع الفعل والتأثير سواء داخل المؤسسات الرسمية أو المنابر الإعلامية، لأنهم حالمون طوباويون إن لم يكن متخلفين عن فهم العالم الجديد وذلك من وجهة نظر نخب زمن الرداءة والفوضى!. وهناك صنف ثالث من الوطنيين أصحاب الفكر التنويري لم يترجلوا عن صهوة الجواد ولم تكسرهم أو تُحبطهم الأحداث، هذه الفئة من العقلاء الوطنيين مستمرة في النضال باستماتة لتنوير العقل وتبديد ظلمة الفكر ومنح أمل بالمستقبل، هؤلاء يعملون بصمت غير عابئين لانتقاد وهجوم أشباه المثقفين ومدَّعي المعرفة والسياسيين الانتهازيين الذين تسللوا إلى مواقع رسمية مستغلين انشغال الشعب بهموم حياتهم الخاصة وأمنهم الشخصي .
بقلم/ د. إبراهيم أبراش