تقدمت الفصائل بمبادرة لفتح معبر رفح، مضمونها أن تقوم حماس بتسليم إدارة المعبر إلى حكومة" التوافق الوطني" وان يتولى المسؤولية الأمنية في المعبر حرس الرئيس، وأن يتم الإستفادة من الأموال الناتجة عن الحركة في المعبر لتطوير مشاريع في قطاع غزة وداخل معبر رفح، وقد رفضت حركة حماس المبادرة بطريقة غير مباشرة كما كان متوقعاً منها، كما فعلت مع سائر المبادرات التي طرحت في السر والعلن، الجزئية والكلية، بما فيها المبادرة قبل الأخيرة التي أطلقها النائب محمد دحلان التي كانت أكثرها جديّة.
مشكلة كل المبادرات التي تساق لحل الأزمات الداخلية مع حركة حماس بغض النظر عن مستوى جديّتها، أنها لا تتزامن مع حالة ضغط شعبي داعم لها على الأرض، وتأتي من زاوية رفع العتب وتحميل المسؤوليات وتسجيل النقاط الإعلامية بحق بعضها البعض، وترتكز بشكل أساسي على الأزمة الخانقة التي تتعرض لها حماس بعد سقوط حكم الأخوان في مصر، والإنكشاف المالي الذي يهدد الحركة ودفعها لتبني سياسات ضريبية ظالمة فاقمت من معاناة السكان وراكمت غضباً شعبياً على حماس لم ولن يؤهل الفصائل للإستثمار فيه، فهي أضعف من فعل ذلك، وغير جاهزة لمغامرة مكلفة من هذا النوع.
فمنذ اليوم الأول للإنقسام في العام 2007، شهد قطاع غزة عشرات المحاولات للتمرد على حكم حماس، أخذ عدة أشكال, بدأت في هجرة المساجد التي تسيطر عليها حماس والصلاة في الشوارع، مروراً بالحشودات الكبيرة في المناسبات الوطنية وتجربة شباب 15 آذار لإنهاء الإنقسام في العام 2011، إنتهاءاً بالإحتجاجات الجماهيرية على استمرار إنقطاع التيار الكهربائي بدون حلول، ولا يمكن للفصائل الإدعاء أنها وقفت خلف هذه التحركات، بل إن عدد منها شارك بإجهاض هذه الإحتجاجات لأنّها لم تخرج من عباءة فصائلية، ولأن الفصائل فشلت في إحتوائها، فالحراك الشعبي الخارج عن سيطرة الفصائل يعني لها الكثير، وأقل ما يعنيه بأنه سيطالها بإعتبارها جزء من الأزمة وليست حلاً لها، كما سيطال الرئيس شخصياً الذي سلّم قطاع غزة لحكم حركة حماس وترك الشعب يواجه ما واجه من ويلات الإنقسام.
الأزمة الفلسطينية شاملة، ومعبر رفح أحد مظاهرها، كما هي مشكلات الكهرباء والمياه والإعمار والإنتخابات والحريات والزيادة الهائلة في معدلات الفقر والبطالة وغيرها، والمبادرات الفصائلية والرفض الحمساوي لها هو نتاج الأزمة أيضاً التي أصبحت أعمق بكثير من محاولات إختزالها في معبر رفح، وأصبح العجز هو السمة العامة للنظام السياسي الفلسطيني بأحزابه ومنظماته المختلفة ، ولم يعد قادراً على إنتاج الحلول لأيّ من الأزمات التي ضربت المجتمع الفلسطيني منذ أن جاء الرئيس عباس إلى سدة الحكم حتّى وقتنا الراهن.
الرئيس محمود عباس الذي أصرّ على إجراء الإنتخابات التشريعية 2006 تلبية لرغبات أمريكية ودولية تحت شعار "إصلاح النظام السياسي الفلسطيني"، كان يعلم أن حركة حماس ستفوز بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي، وكان متيقن من عدم جهوزية حركة فتح لمعركة الإنتخابات التشريعية بعد أن خسرت في الإنتخابات البلدية، بالرغم من ذلك فهو لم يسع إلى توحيد حركة فتح تمهيداً لهذه الإنتخابات، وما زال يمارس أفعال التشتيت في هذه الحركة حتى وقتنا الراهن، لأنه يدرك أن حركة فتح هي القوّة الكبيرة التي إن وحدت صفوفها تستطيع أن تفعل الكثير، وأن تدفع حركة حماس إلى مصالحة شاملة مرتكزة على قاعدة المشاركة والإنتخابات الديمقراطية وهذا ما لا يرغب به الرئيس عباس، فهو غير معني بنظام سياسي مؤسسي مستقر يضعه في دائرة المساءلة، وغير معني بحركة قوية تحاسبه على جملة من الإخفاقات السياسية والتنظيمية التي رافقت مسيرته منذ أن توّلى رئاستها حتّى الآن.
وحدة حركة فتح مدخلاً مهماً لمصالحة شاملة مع حركة حماس، وهي بداية لمسار آمن للمجتمع الفلسطينية يجنبه خطر صراع دامي قد ينتج عن الأزمات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية ليس في قطاع غزة وحسب، بل في الضفة الغربية أيضاً، لأن الأزمة الحقيقية والخطرة تكمن في كل مفاصل النظام السياسي الفلسطيني الذي نخره السوس وأصابه الشلل وهيمنت عليه عصابات "البزنس السياسي" التي تعطّل فرص المصالحة وتسعى جاهدة لإستمرار الحال على ما هو عليه، حفاظاً على مصالحها المتحققة في بيئة بوليسية قمعية تغيب عنها كل أشكال الرقابة والمحاسبة.
الفصائل التي أطلقت مبادرة فتح معبر رفح متأكدة من موقف حماس الرافض لها قبل أن تعلن عن هذه المبادرة، وسترفض كل المبادرات اللاحقة لاعتبارات كثيرة، منها ما هو داخلي متعلق بحركة حماس نفسها وحرصها على ممارسة الحكم حتى آخر فرصة، ولإعتبارات أخرى ذات صلة فيما يجري في الإقليم والمحور الإخونجي القطري التركي المسنود أمريكياً، وبقدر علم الفصائل بحقيقة موقف حماس فإنها أيضا تعرف موقف الرئيس عباس الذي لم يعد يعنيه أمر قطاع غزة بكل ما فيه من تفاصيل، ولو كان الأمر بيده لأعلن ذلك دون خجل وإن كان يمارس سياسات فك الإرتباط المالي والسياسي والإداري مع قطاع بشكل تدريجي منذ العام 2007 حتى الآن، ومع علم الفصائل بهاتين الحقيقتين، فهي ما زالت تناور في جزئيات الأزمة وتبتعد عن مواجهة أسبابها الحقيقية المتمثلة في الإنقسام والتدخلات الإقليمية وارتهان القرار الوطني الفلسطيني في أيدي الممولين.
لا تيأسوا من محاولاتكم، ولكن لا تجعلوها شغلكم الشاغل ووسيلة لملئ الفراع وتغطية العجز، جربوا مرة ثانية وثالثة وعاشرة ولكن لا تقنعوا الناس بأوهام تعطّل من حراكهم دفاعاً عن مستقبلهم وحماية لمصالحهم، وتذكروا دائماً أن الشعب الفلسطيني أذكى مما تتخيلون، وأسبق على ما تخططون، وقد علمته التجربة ما لم تتعلمون.
بقلم/ محمد أبو مهادي