غزة .. بالكلمات نرسم صورتها .

بقلم: وفيق زنداح

في لحظات التأمل وما يتوفر من لحظات الهدوء التي نفتقدها في هذا الزمن .....بكل ما فيه وعليه ....نحاول أن ننشد الي الماضي ...هروبا من واقع مؤلم ....لا زال على اوجاعه وملابساته ....خوفا من التقدم خطوة واحدة .....لمستقبل مجهول .....محفوف بالمخاطر.... مما وضعنا امام حالة فريدة .....فيها من المشاعر والتجربة .....ما يمكنني من رسم صورة غزة ....من خلال الكلمات ....التي سأسردها ترجمة لصورتها .....التي لا زالت بذاكرتي والتي لا زلت ارددها وأعيش أيامها ....وربما بالكلمات والمشاهد سنكون الاقرب..... لرسم الصورة بكافة أركانها وبكل ما فيها من احساس.
غزة ....الممتدي على البحر الابيض المتوسط من منطقة بيت لاهيا شمالا .....حتي رفح جنوبا ..ومن حي الشجاعية شرقا ....حتي البحر المتوسط غربا ....بداخل تلك المنطقة الجغرافية ألاف من السكان الطيبين ....الذين يمتهنون مهنة الزراعة والحرف اليدوية ...والتجارة والاعمال الخدماتية ...غزة بجغرافيتها هي عبارة عن مناطق زراعية برمالها الصفراء بلون الذهب .....وبمياهها العذبة كالعسل ...عائلات محترمة ....واحياء جميلة ....محبة لبعضها البعض ومزارعين يذهبون الي مزروعاتهم مع كل صباح ليزرعوا وليحصدوا ...وليسوقون مزروعاتهم الي الاسواق حيث منطقة الخان ....سوق فراس ...حيث يقوم التجار وأصحاب المحلات بشراء بضائعهم وتوزيعها للمحلات والبائعين المتجولين .
منطقة الشمال بقطاع غزة .....تتضمن مناطق بيت حانون وبيت لاهيا ومخيم جباليا وبلدة جباليا والنزلة ....وأنت ان كنت من سكان مدينة غزة في ذلك الوقت ....ستري الشمال بصورة واضحة ...بأشجارها الخضراء ...وخاصة حمضيات القطاع المشهورة والتي كانت تصدر الي بلدان عديدة عبر البحر من خلال وضعها في صناديق خشبية يتم تحميلها عبر قوارب صغيرة تدخل الي عمق البحر لتحملها البواخر الكبيرة ...لعدم وجود ميناء ذات مواصفات فنية بحرية .
غزة.... والنظر اليها شمالا ستري الحدود. كما غزة شرقا ستري منطقة الشجاعية ....وغربا ستري منطقة شاطي غزة ....وما بينهما منطقة وسط غزة والتي يخترقها الشارع الرئيسي عمر المختار والذي يمر عبر ميدان كان يسمي ساحة التاكسيات وبالقرب منه مستشفي المعمداني ( الانجليزي ) ..ومستشفي اخر تل الزهور ( مكان مقر بلدية غزة ) ...وبجوارهم سوق فراس .
شارع عمر المختار الشارع الرئيسي الوحيد الممتد من الشجاعية شرقا الي ميناء غزة القديم غربا ...مرورا بمناطق سينما السامر ....وسينما النصر ..ومنطقة السرايا ...وبجانبها سينما عامر ....وسينما الجلاء ...ويمتد شارع عمر المختار ليصل الي الجندي المجهول والمجلس التشريعي الذي كان يترأسه الحاج راغب العلمي .....ليمتد الشارع الرئيسي حتي منطقة الجميزات ( العباس حاليا )....وحتي الميناء القديم على شاطي البحر .
شارع عمر المختار والممتد من الشجاعية شرقا ...حتي ميناء غزة غربا ..تتخلله بعض المباني والمحال التجارية ...وفي مناطق اخري كانت عبارة عن مناطق رمال صفراء تغلب على هذا الشارع الرئيسي .....على اساس أن كثافة السكان كانت تتواجد داخل مناطق الشجاعية والتفاح وحي الزيتون ...ومنطقة الدرج ..اضافة لمعسكرات اللاجئين ...معسكر الشاطئ على بحر غزة ....ومخيم جباليا في الشمال ....والمعسكرات الوسطي كالنصيرات والبريج والمغازي ومدينة دير البلح والزوايدة وحتي خانيونس .....والمناطق الشرقية بني سهيلة وعبسان وخزاعة ....وغربا معسكر خانيونس ليمتد الشارع الرئيسي الممتد من بيت حانون شمالا حتي رفح جنوبا والمستمر بامتداده الي رفح المصرية وشبه جزيرة سيناء .
المناطق الجنوبية للقطاع من وادي غزة .....مرورا بالمخيمات الوسطي ..وما ذكر سابقا من مناطق حتي مدينة رفح ومعسكرها على الحدود الجنوبية .
جغرافية غزة ....وحدودها المتعارف عليها ...وسكانها داخل المدن والمخيمات والقري كانت معروفة ومحددة .....حيث كانت غزة بشكلها العمراني ...عبارة عن منازل بسيطة لا تتعدي ادوارها دورين على أكثر تقدير في ظل بيوت عديدة بدور واحد...ولم يستجد على غزة من بناية كبيرة الا عمارة ابو رحمة وسط مدينة غزة ...والتي اقيمت على منطقة تسمي خان الزيت ....وبجوارها حمام السمرة .
غزة منطقة زراعية تنتج لأهلها كافة المزروعات والخضراوات واللحوم أي ان هناك اكتفاء ذاتي لما يتم استهلاكه ....وهناك فائض للتصدير من الحمضيات كأحد الموارد الاقتصادية لسكان القطاع ...اضافة للأعمال التجارية والتي كانت تحقق عائدات مالية من خلال عمليات البيع والشراء وما يصل القطاع من بعثات مصرية .....تقوم بالشراء على اعتبار أن القطاع سوقا حرة فيه من البضائع ما يلبي احتياجات المستهلك .
غزة كانت بسيطة بظروف حياتها ..وجماليات ساحلها ...ونظافة مدنها ....وما يتواجد على شاطئها من بعض الاستراحات والمطاعم البسيطة ...والمغطاة بأشجار النخيل وما كان من كباين على شاطي البحر بمنطقة النصيرات باعتبارها المنطقة المرتفعة والاجمل على ساحل غزة ....منتجات غزة الزراعية والتي تميزت بها العنب والزيتون والخضروات ..اضافة للحمضيات ....ولم يكن يستورد الا التفاح اللبناني وبعض المنتجات الغذائية من مصر والخارج عن طريق بعض التجار الغزيين ...حيث كان الاستيراد يتم عبر ميناء بورسعيد ...وبعد ذلك يدخل الي القطاع عن طريق البر وحتي عن طريق بيروت بلبنان ....من خلال اذونات استيراد كان متعارف عليها في ذلك الوقت .
العملة المتداولة في قطاع غزة كانت الجنيه المصري ...وكان راتب الموظف لا يتعدى اثني عشر جنيه ..لكنه كان يعيش بمستوي مقبول ودون تعقيدات .
في غزة كانت مظاهر الحياة الثقافية مقبولة الي حد كبير حيث تواجد داخل القطاع 4 دور عرض سينمائي النصر ...والسامر ..والجلاء ..وعامر ...اضافة الي دار عرض بمدينة خانيونس...كما كان الكازينو الوحيد على بحر غزة معروف بأبو هويدي كما كانت المواصلات من خلال سيارات الاجرة ما بين الشرق والغرب ..وما بين الشمال والوسط والجنوب .
في غزة كان الاعلام حاضرا حيث كانت صحيفة اخبار فلسطين التي يترأسها المرحوم زهير الريس ....ومدير تحريرها محمد ال رضوان ....وصحيفة الصراحة لأبو الخوالد السقا ....كما كان هناك كتاب ومثقفين وشعراء نذكر منهم معين بسيسو ...وهارون وهاشم رشيد. وغيرهم .
كما كان يأتي الي غزة عبر قطار السكة الحديدية صحف الاهرام والاخبار والجمهورية ...ومجلات أخر ساعة والكواكب وحواء ...الذين كانوا يصدرون بالقاهرة ...كما كان هناك مكاتب ثقافية مكتبة الهاشمية ..ومكتبة حكمت برزق .
غزة كانت تشتهر بالحلويات الشامية والتي كانت بالعديد من المحلات المعروفة والمشهورة في ذلك الوقت مثال الغزالي للحلويات ...وساق الله ..والافغاني وغيرهم ....كما كانت غزة تشتهر ببعض المطاعم الشامية مثال الكباريتي والكردي والخزندار وعكيلة وغيرهم من المطاعم الصغيرة .
علاقات سكان القطاع مع بعضهم البعض تصل الي حد المثالية ....ولا يشوبها شائبة ...حيث كان الناس متكافلين متضامنين ...يشعرون ببعضهم البعض ..ويتحسسون الام بعضهم ...ويشاركون بافراح بعضهم ...ولم يشهد القطاع عبر الحقبة الزمنية الماضية الا جريمة واحدة كان القصاص فيها سريعا.
غزة .....بحضارتها وتراثها وتاريخها فيها من الاثار الكثير ...كما فيها من المساجد ذات التاريخ الطويل كالمسجد العمري ....وقلعة نابليون ....ومنطقة شمشوم ....ومنطقة القيسرية المشهورة وسط مدينة غزة ...والمعروفة اليوم بسوق الذهب .
التكافل الاجتماعي والعلاقات الاسرية كانت تمارس بصورة طبيعية ...فما كان يطبخ داخل اسرة محددة تراه يوزع على باقي الاسر بكل محبة وأخوة .....الافراح تجمع الناس ...كما المآسي ..كنا نعيش ببساطة وهدوء ...وبأمان اجتماعي واقتصادي ..وبأخلاقيات عالية ....كان هناك شيء اسمه حرام ...وعيب ....وأصول.... كما كانت العائلة تلتزم بقرار كبيرها في ظل احترام والتزام .
غزة ....كانت ترسل ببعثاتها للعمل بالخارج داخل منطقة الخليج والسعودية ...كما كان هناك من يعملون داخل مصر بوظائف حكومية ....كما عمل العديد من التجار الفلسطينيين على افتتاح محلات لهم داخل مصر ....ولمن يزور القاهرة اليوم يتأكد من منطقة وسط البلد والعديد من المحلات التجارية .
كنا نذهب لمصر عبر القطار او الطريق البري من خلال السيارات ...كما كان سكان القطاع يحملون وثائق سفر مصرية .
ننشد للماضي ...ننشد لغزة الجميلة ...بطبيعتها الخلابة ...وأهلها الطيبين ....كلما ضاق بنا الحال ...واشتدت بنا الازمة ....غزة وماضيها الجميل ....برجالاتها المعروفين من زعامات تقليدية كانت تحظي بالاحترام والتقدير ...مثال الدكتور حيدر عبد الشافي ...والحاج رشاد الشوا ...والعديد من الشخصيات ...كما كان بداخل غزة مساجد مشهورة وذات تاريخ كالمسجد العمري ومسجد السيد هاشم ....كما كان لدينا علماء دين أجلاء لهم احترامهم وتقديرهم أمثال الشيخ اسماعيل جنينه ...والشيخ هاشم الخزندار ...والشيخ محمد ناجي أبو شعبان .
غزة مليئة بالرجال والعلماء ...ومليئة بالإنجازات والاحداث ..كما أنها مليئة بالبطولات التي سجلها الفدائيين القدماء ورجالات هذا البلد ....لكن التاريخ لا زال يقصر في الحديث عن غزة بتاريخها القديم ...في ظل ما يطغي من احداث متلاحقة ....على اعتبار ان الاجيال من حقها أن تعرف بلدها الذي تعيش فيه ....بلد الاجداد والاباء ....لكن غزة ستبقي ولن يبتلعها البحر ...كما أراد اعدائنا ...لكنها ستبقي شامخة ....وعصية على الكسر ...بإرادة أهلها المنتمين لفلسطينيتهم ....والملتفين حول قيادتهم الشرعية ...وحول ممثلهم الشرعي والوحيد منظمة التحرير الفلسطينية .
الكاتب : وفيق زنداح