هل خُلق الإنسان الضعيف ليتألم ؟ بالتأكيد لا .
تكاد تلك الإجابة أن تثير العديد من التساؤلات والمتعلقة بالكيفية التي يتألم بها الإنسان , والوسائل الاقتصادية وذات الطابع المالي التي أدت إلى ذلك , في ظل مزيداً من التعقيدات والتناقضات التي تصاحب عمليات الإنتاج في بنية وطبيعة النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يميل مع الوقت ليصبح نظاماً غير سوي ولا إنساني بعد تفاقم مشكلات اللا عدالة واشتداد الفقر والحرمان لمئات الملايين من البشر هم يتألمون في حين هناك مليار شخص بالعالم هم المليار الذهبي منهم الكثيرون كذلك بألم وإن كان ذلك نسبياً, في المقابل هناك 6 مليار شخص دون المليار الذهبي نسبة كبيرة منهم يعيشون دون 2 دولار في اليوم الواحد, وأجور من يعمل منهم دون حد الكفاف , أي أن هناك ألماً تسببه السياسات الاقتصادية المُنتهجة في العديد من الدول بالعالم, يظهر بعض أصناف هذه الألم في نفاذ مفعول نظرية حلب النملة , حيث أن تلك السياسات تُشكل ألماً ونزفا للفقراء وذوي الدخول المنخفضة وشعوب العالم الثالث الذين تستنزفهم الشركات الاحتكارية وتمتص دماءهم وتسلب مستويات رفاهيتهم المتراجعة مع مرور الوقت , إذ يمكن اعتبار الشعوب النامية ويشكلون أكثر من 70% من سكان المعمورة البالغ تعدادهم 7 مليار نسمة, بأنهم من الناحية الاقتصادية ومستويات الرفاهية والسعادة كالنملة إذ لا قوة لها ولا حيل, فتخيلوا لو تم حلب تلك النملة وبطرق شتى يُبدع فيه الرأسمالي والحكومات المُدافعة عنه باستماتة, فماذا يبقى منها , هذا ما يجب قوله عند الحديث عن لماذا يتألم الإنسان في المنظومة الرأسمالية التي يصارع مؤيديها ومفكريها لتكون المرحلة القائمة والسائدة والأكثر في تحقيق رفاهية واستقرار الشعوب , في حين أن موارد بقائها يعتمد على مورد الطلب العالمي واتساع الأسواق والمنافذ , تلك الأسواق التي تعاني من الركود العالمي وتسير في الكثير من أنشطتها نحو الكساد يتعمق مع استمرار التناقضات في العلاقة بين الاستهلاك وبين الإنتاج, لذلك يتم اللجوء إلى اعتماد وسائل الاستعمار وخلق القلاقل في مناطق متعددة بالعالم لتحافظ على مستويات طلب معينة تتناسب مع احتياجات وأطماع الرأسماليون .
متى يمكن للإنسان أن يُخلق ويعيش ويموت وهو يتألم ؟ عندما يُهيمن رأس المال الاحتكاري والمالي, وتصبح العلاقات بين بنى البشر علاقات مادية بحتة , أي عندما تُوجد الحاجة الملحة لوجود من يمتلك وهم أقلية ومن لا يمتلك وسائل الإنتاج وهم الأغلبية رغم أنهم هم من يعمل فعلياً , عندما تُوجد الحاجة لخلق الثروة و الرساميل والتي أوجدت الأسواق المالية والبورصات والتي تسيطر عليها عدة رموز ومؤشرات رقمية لا قيمة لها على أرض الواقع فهي مؤشرات مالية لا تنعكس بشكل ملموس في طبيعة وأنشطة الاقتصاد الحقيقي المنتج والذي يضيف قيم اقتصادية تُحد من المشكلات الإنسانية وأهمها الفقر والبطالة الآفتين الأكثر حرجاً للرأسمالية , كذلك عندما تصبح الفائدة على رأس المال لاعبا رئيسا في تحديد القرارات الاقتصادية والاستثمارية, إذ لا زالت السبب الرئيس في وجود ألماً للشعوب والتي ظهر بالصراع الحميم للدفاع عن قدسية الملكية الخاصة في كل مناحي الحياة حتى لو جاءت على حساب حرمان وفقر مئات الملايين من بنى البشر أو بالأحرى على حساب موت الملايين .
متى يمكن للإنسان أن لا يتألم ويتمتع بخيرات البشرية ومواردها الطبيعية التي هي حق للإنسان أي كان ؟ عندما يعي الإنسان أنه وُجد ليتمتع بتلك الخيرات وليس ليتألم على يد الآخرين , أي عندما يعي جيداً ويعرف حقه في ضرورة العيش بكرامة إنسانية تحقق له آدميته المفقودة في كثير من الأحيان , تلك الكرامة لا بد من أن تُنتزع ممن انتزعها سابقا والتي تمت بوسائل ناعمة وأخرى عنيفة .
لماذا يتألم وينزف الكثيرون دما وفقراً وجوعاً , لماذا يُسيطر 1% من أثرى الأثرياء الرأسماليون على أكثر من نصف ثروات سكان العالم الأكثر فقراً , لماذا يتألم قرابة 4 مليار نسمة في حين يتمتع 62 شخص في خيرات تساوي ما يمتلكه أل 4 مليار نسمة , 62 شخص بالعالم يمتلكون ما يمتلكه نصف سكان البشرية , بمعنى أن ثروة كل شخص من هؤلاء الأثرياء تساوي ثروة 65 ألف شخص أي بواقع 65,000 :1, ألا يُعد هذا ألماً لأكثر من 6 مليار شخص بالعالم نسبة كبيرة منهم فقراء في حين لا زال هناك مليار أخر يُعتبر ذهبياً يحققوا مستويات معيشة لائقة منهم أيضا هناك تفاوت كبير في الشرائح المجتمعية في هذا المليار الذهبي الموجود في دول المركز الرأسمالي " دول الشمال المتقدم".
قبل عدة أعوام وصف شيمعون بيريس رئيس وزراء إسرائيلي أنه يوجد في إسرائيل 6000 مليونير مقابل 6 مليون فقير وأطلق على ذلك الرأسمالية الخنزيرية !
يعود السبب في ذلك إلى غياب العدالة الاجتماعية وقيمها الإنسانية الراقية, وسيادة الاحتكارات وبشرعية القانون الذي وضعه ساسة متزوجين كاثوليكياً بالمال, زواج لمرة واحدة وبدون طلاق , تلك الاحتكارات المدعومة بهذا الزواج " زواج المُتعة بين رأس المال والسياسة" هو سلوك إنساني لا دين له ولا ضمير , متى ينزف ثلثي سكان العالم؟ عند وجود أباطرة وحيتان للألم لا يحملون بنادق وقناصة , وإنما يحملون حقائب صغيرة ومكاتب أصغر, يحملون قنابل دمار شامل مالية موقوتة قابلة للانفجار تنتظر إشارة من حفنة من المدراء وأصحاب الياقات البيضاء والذين يتسموا بارتكاب الجرائم الناعمة والتي تُشكل خطراً يفوق مخاطر الجرائم العسكرية الدموية التي يكون للسلاح والقنابل والقذائف والبراميل دوراً في حسم القضية .
فلسطينيا ً : لماذا يتألم الفلسطيني ويُسمح للأقلية الرثة في سرقة جيوبه الممزقة ونهب حقه في العيش بكرامة واستنزافه باستمرار وكأن هناك عملية انتقام لذاك الفلسطيني ؟ يتألم بسبب غياب الحس الوطني والإنساني لهؤلاء الأقلية الباحثين عن مكاسب وثروات في أضيق الحدود ؛ يتمثل ذاك الغياب الوطني والإنساني بوجود انقسام فلسطيني - فلسطيني عمره الزمني 9 سنوات ويزيد , سياسات اقتصادية نيو ليبرالية متوحشة في كثير من الأحيان, يتألم بسبب تلك السياسات ولأزمة الكهرباء والاتصالات وأسعار السلع نماذج حية لذلك , إخفاقات كثيرة بدءا بغياب القطاع العام المنتج الذي ينظر إليه بأنه الحل الواقعي لاقتصاد تتحكم فيه وزارات الأمن والاقتصاد والتجارة الإسرائيلية وفي كثير من الأحيان دائرة المواصفات والمقاييس , مروراً ببرامج غير اقتصادية وغير تنموية التهمت جزء كبير من الموارد المالية, وليس انتهاء بالفساد وغياب الرؤى والاستراتيجيات التي تدعم الفلسطيني وتجعله بدون ألم وبدون مشقة , وهو بحاجة لذلك كونه تحت الاحتلال , إذ لا قيمة لأي عمل أية كان يُهمش الإنسان ويجعله أسير للحاجة ولرغيف الخبز ولبطاقة الصراف الآلي , ويجعل تفكيره بالحاجيات الإنسانية شبه البحتة, يتألم مع سيادة نظريات حلب النملة الذي يعبر عنها بالسياسات الضريبية, ونظريات الفنكوش الذي يعبر عنها بحالة التيه والسراب التي وصل إليه الفلسطينيون , ونظريات تخصيص المنافع وتعميم الخسائر ويُعبر عن ذلك بتحليل نتائج الانقسام بعمق وبكل جرأة.
يتألم بسبب إغلاق المعابر والحواجز واستمرار الاستيطان واستمرار نهب الأراضي وسرقة المياه , يتألم بسبب ارتفاع الأسعار , يتألم بسبب عدم وجود فرص عمل للعاطلين والذين سيبلغ عددهم المليون في العام 2020, كذلك يتألم بسبب فرض الضرائب ويتألم كذلك بسبب تنامي اللا عدالة في توزيع الدخل, يتألم عندما يتم مشاهدة أن هناك تفاوت كبير في الأجور والرواتب , يتألم عندما يجد رواتب في الأراضي الفلسطينية دون حد الفقر المُدقع ودون الحد الأدنى للأجر التي تقره حكومة لا تلتزم به , يتألم عندما يفتقر المجتمع لوجود ضمان اقتصادي واجتماعي وعدم وجود برامج تكافلية حقيقة , ويتألم كل يوم بأزمات جديدة من أحد أبرز أسبابها بعد الاحتلال الإسرائيلي أسباب محلية .
كيف يمكن لذاك الُمتألم أن يتمتع بحقه في الحصول على كرامته الإنسانية التي كفلتها الأديان والشرائع السماوية وغير السماوية : يكون ذلك بمزيد من الوعي الحقيقي الذي يمكنه من المطالبة بحقه بشكل عقلاني وليس بالصراخ بقوله آها آها آها , ولكن بوسائل أخرى لا يفهمها سوى الضحايا .
ألا تُعد سنوات الضياع التسع في الأراضي الفلسطينية سنوات ألم .
بقلم / حسن عطا الرضيع
الباحث الاقتصادي_غزة