أثر الإنقسام الفلسطيني على القضاء الشرعي (رؤية وحل)

بقلم: القاضي ماهر خضير

الواقع الفلسطيني:
معلوم أن الواقع الفلسطيني لايخفى على أحد فمن إحتلال طال أمده وإنقسام بات ظله الأسود يلاحق حتى الطفل الرضيع في مهده. دخلت السياسة حياة الناس الكادحة ليس من باب الترف ولامن حرص البسطاء على سبر غور هذا العالم المليء بالتناقضات بل لأجل الحاجة الماسة المرتبطة بنواحي حياتهم اليومية ،أثّر الإنقسام الذي دخل في كل مكان ونغص حياة الصغير والكبير الغني والفقير فأصبح يراه الإنسان الفلسطيني جليا في الإقتصاد والسياسة الداخلية والخارجية في الشارع والبيت في العمل والسفر وطبيعي أن يكون أيضا في القضاء وغير ذلك من تسيير امور الناس في الحياة اليومية .
ولعل حالة الإنقسام الفلسطيني التي تجلت أبرز معالمها في يونيو حزيران 2007 أثرت سلبا على القضاء الشرعي الفلسطيني وظهرت جلية عندما أرغموا القضاة الشرعيون في غزة بترك أماكن عملهم في الفصل بالقضايا بين المواطنين بعد سنة تقريبا من الانقسام وبالتحديد يوم 21/2/2008.عندما تم تغيير اقفال مكاتبهم ومنعهم من دخولها الا بعد التوقيع على اقرار تبعية لجهة معينة بغض النظر عن السبب .وبقىت حينها الاماكن شاغره حتى تم مليء الفراغ الوظيفي بعدد من القضاة الذين وبحكم الواقع ليس لهم الخبرة أو العلم ولا الممارسة مايعينهم على تسيير أمور الناس.
القضاء الشرعي الفلسطيني:
إن تاريخ القضاء الشرعي الفلسطيني عريق وزاخر منذ مئات بل آلاف السنين ويفوق قضاء دول حديثة وغنية ولو تتبعنا كتب الفقه والتاريخ لوجدنا أن فلسطين تزخر بقضاة من الصحابة والتابعين. قال الأوزاعي: أول من ولى قضاء فلسطين عُبَادةُ بن الصامت. وتوفي عبادة رضي الله عنه سنة أربع وثلاثين للهجرة بمدينة الرملة، ونقل جثمانه إلى بيت المقدس، حيث دفن في مقبرة باب الأسباط، وقيل بالبيت المقدس، وعمره اثنتان وسبعون سنة.وهوأول قاضٍ للإسلام في بيت المقدس ،فمن المعلوم أن فلسطين قد فُتحت في السنة الخامسة عشر للهجرة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسيدنا عمر رضي الله عنه ذهب بنفسه إلى بيت المقدس ليتسلم مفاتيحها، مع العلم أن فتوحات عديدة قد حدثت في عهده رضي الله عنه، فلم يذهب ليتسلم مفاتيح مصر، ولا دمشق، ولا بغداد، وإنما جاء ليتسلم مفاتيح مدينة القدس في دلالة واضحة على مكانة هذه المدينة في عقيدة المؤمنين. وأصدر رضي الله عنه حينها قراراً بتعيين الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه قاضياً لبيت المقدس فكان عبادة رضي الله عنه أول قاضٍ للإسلام في بيت المقدس.
والتاريخ الاسلامي يؤكد أن الفقه الإسلامي في فلسطين كان هو المرجع الوحيد للفصل في جميع الخصومات وقطع المنازعات وذلك لشموله وعمومه وصلاحيته لكل زمان ومكان ولخصوبة قواعده ومبادئه واتساع مصادره.ولكن في عهد الدولة العثمانية وبالذات في عهد السلطان عبد المجيد سُلب من القضاء الشرعي أكثر إختصاصاته حيث أصدر هذا السلطان المرسوم الإصلاحي الذي عرف حينها (بخط كلخانة) سنة 1839م وبموجبه عمل على وجود قوانين وضعية بجانب أحكام لشريعة الإسلامية فأنشئت حينها المحاكم النظامية وأصبحت المحاكم الشرعية فقط مختصة بنظر مسائل الأسرة التي اصطلح على تسميتها بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والنفقات والحضانة والإرث والوصية وظل القضاء الشرعي الفلسطيني مستقلا بالنظر في مسائل الأحوال الشخصية في كل فلسطين.ولكن رغم ذلك وعند تقنين الأحكام الشرعية والمتمثلة في مجلة الأحكام العدلية وفي الحقبة المصرية عندما تولى الحاكم العام في غزة طبقت القوانين المصرية كقانون الاحوال الشخصية على مذهب الامام ابي حنيفة وكقانون حقوق العائلة وكقانون اصول المحاكمات الشرعية رقم 12 لسنة 65 وطبقت القوانين الاردنية في الضفة الغربية كقانون الاحوال الشخصية الصادر سنه 76 وقانون اصول المحاكمات الشرعية رقم 31 الصادر سنة59 .
وبعد الإنقسام الفلسطيني الأسود والذي طال القضاء الشرعي بكل جوانبه الإدارية والقضائية ،أصبح هناك مجلسان للقضاء الشرعي ومحكمتان عليا ومجلسان للقضاء وانقطع التواصل تماما بين الجانبين من النواحي القضائية الامن بعض الاعلانات في الدعاوى تتم بين الموظفين المعنيين .بل ان الاسم تم تغييره ففي غزة تم تغيير اسم ديوان قاضي القضاة الى ديوان القضاء الشرعي وتم الغاء منصب قاضي القضاة بل تم اصدار تعاميم وقرارات غيرت من القوانين المعمول بها سابقا كالحضانة والضم والخلع وغير ذلك .وصدرت مراسيم بفصل قضاة ووقف رواتب آخرين .
وباختصار فان الحزبية المفرطة قد سيطرت على القضاء الشرعي الفلسطيني وأصبح هناك قضاة حزبيون خلافا للقانون الذي يشترط بل يمنع القضاة الشرعيون وغيرهم من إبداء الآراء السياسية ويجب عليهم التخلي عن أي حزب سياسي ،ويلاحظ قلة التقيد في تطبيق هذا الشرط.
الآثار الناتجة عن الأنقسام على القضاء الشرعي الفلسطيني:
1- في تشكيل المجلس الأعلى للقضاء الشرعي:
صدر مرسوم رئاسي بتشكيل المجلس الأعلى للقضاء الشرعي من السيد الرئيس وكان التشكيل بالصفة وليس بالاسم كما كان سابقا وتشكل المجلس من رئيس المحكمة العليا رئيسا ورؤساء الاسئتئناف ومن أقدم قضاة المحكمة العليا الشرعية في الضفة وغزة ..الخ. ولكن بعد الإنقسام . اصبح هناك مجلسين الأول وهو الصحيح من الناحية القانونية حيث صدر بمرسوم من ولي الأمر وطبقا لنظام انشاء المجلس نفسه .ويشارك فيه أحدأعضاء المحكمة العليا من غزه والآخر أنشيء بغزة بتشكيلة غير متوافقه مع نظام انشاء المجلس وبدون مرسوم رئاسي ومن تشكيلته قضاة تم فصلهم بغض النظر عن السبب ولكن النظرة القانونية للامر غير صحيحة .وانقسام المجلس الأعلى للقضاء الشرعي بهذه الطريقه تؤثر على تطبيق العدالة بلاشك فاللمجلس مهمة كبيرة في مراقبة القضاة ومحاسبتهم وتنقلاتهم وبل وتخطيط مسيرة القضاء الشرعي باكمله.
2- في تعيين القضاة الجدد:
نص القانون على تعيينات القضاة وترقيتهم وأقدميتهم بنصوص واضحة في قانون السلطة القضائية واشترط في تولي القضاء عدد من الشروط بحيث يكون شغل وظيفة قاضي بقرار من رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية بناء على تنسيب من مجلس القضاء الشرعي وبأغلبية ثلثي الأعضاء.بعد اجراء المسابقة القضائية . ولكن هذا لم يتم في غزة فتم احلال موظفين قضاة جدد بدون اتباع الاجراءات القانونية يتطلبها القانون كالخبرة والأهلية القانونية والشرعية ...الخ الأمر الذي يترتب عليه مخالفات واضحة لقانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002.
3- في التنفيذ:
أدى الانقسام الفلسطيني السياسي الى انقسام السلطة القضائية وتعطيل سير العدالة في تنفيذ الاحكام الصادرة عن المحاكم الشرعية وهذا ادى الى خلل في ضياع الحقوق او تحصيلها باليد او القوة .خاصة اذا اختصت محاكم في نظر القضايا بينما كان التنفيذ في الشق الآخر من الوطن . ويتجلى ذلك في تنفيذ قضايا الضم او اعادة تحصيل الامول في القضايا الناتجة عن قطع النفقات او تنفيذ النفقات على موظف يتقاضى راتبه من رام الله وهو يعمل في غزة ....الخ
4- ضعف الموارد والميزانيات التشغيلية للمحاكم:
يعاني جهاز القضاء الشرعي من ضعف الموازنة الخاصة بالسلطة القضائية حيث نتج عن ذلك عدم كفاية المباني في غزة وعدم القدرة على صيانتها ونقص الدعم اللوجستي الخاصة بمرافق القضاء الأمر الذي انعكس على سير العدالة وكذلك عدم القدرة على تطوير قدرات الكادر البشري داخل منظومة القضاء. وعدم كفاية الدعم اللوجستي كما ذكرت كتوفير دفاتر عقود الزواج والطلاق واوراق المعاملات والمكاتب التي تتلاءم مع طبيعة العمل.
5- عدم التوافق بين العمل التشريعي والعمل القضائي:
الأمر الذي أدى الى عدم استقرار العمل القضائي ومن مظاهر عدم التوافق المحاولات المتكرره في المجلس التشريعي لتعديل قوانين الاحوال الشخصية منفردا في جهة واحدة من الوطن وقدتم تعديل بعض مواده.
6- اجراءات التقاضي ومدى سلامة الاجراءات القانونية والقضائية:
من الثابت أن الاجراءات تمر بمراحل متعدده في الدعوى الشرعية وتحتاج الى خبرة وعدالة وعدم تميز طبقا للحزبية.وسلامة الاجراءات ومدى صحتها تعتمد على الخبرة والممارسة والاطلاع .وتعيين القاضي بدون مرسوم رئاسي وطبقا للشروط القانونية المعتمده على الخبرة والمؤهل يعمل على خلل في العدالة.
الرؤية والحل:
ان رؤيتي لانهاء الانقسام تتمثل بداية في وجود النية الحقيقية والصادقة لانهائة وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة والفئوية والحزبية ولابد أن يكون تنازل حقيقي حتى لو كان مؤلما من أجل المصلحة والحفاظ على كيان القضاء الشرعي وتاريخة .ويجب علينا أن ننظر الى هؤلاء العظماء من القضاة الذين سبقونا وسمعنا عنهم وتعلمنا منهم دون ان نراهم ولكن من خلال قراءة ملفاتهم وقضاياهم وسمعتهم من اجدادنا وان نحافظ على ما بنوه وحافظوا على من سبقهم من اعمال .حيث كان القاضي الشرعي هو رجل الاصلاح وهو الحاكم وهو المقاوم للاحتلال كان عندما يسير في الشارع يقف له الناس احتراما واجلال لمكانته. ومن هؤلاء القضاة الشيخ محمد ابو شعبان والشيخ خلوصي بسيسو والشيخ مصطفى الشوا والشيخ محمد عواد وغيرهم الكثير ...فعلينا ان نحافظ على انجازتهم من ناحية وان نترك لمن ياتي من بعدنا سيرة طيبة لنا واعمال تذكر بخير لمن ياتي بعدنا من ناحية اخرى فالمنصب لايدوم ولو دامت لغيرك ما وصلت اليك.
اما الحل العملي الذي يمكن ان يضع حدا لهذا الظلام الاسود في تاريخ القضاء الشرعي فاراه في عدة نقاط:
1- أولا أوصى نفسي وزملائي القضاة الشرعيون بتقوى الله في السر والعلن والمطلوب قضاة متمسكون بعقيدتهم الاسلامية وأخلاقهم المثالية ظاهرين على الحق ماسكين لميزان العدل ويشعرون بحجم ثقل المسؤولية التي كلفهم الله تعالى بحملها.
2- البعد عن التجاذبات السياسية الداخلية وعدم اقحام القضاء الشرعي فيها واعطاء النموذج للقضاء الشرعي الفلسطيني الذي باتت فلسطين بل والأمة بأسرها بحاجة اليه للتأكيد على تطبيق الشريعة الاسلامية في كل فلسطين والحفاظ على القدس والمقدسات الاسلامية.
3- تطبيق القانون بمنع القضاة الشرعيين من ابداء الآراء السياسية ويجب التخلي عن أي حزب سياسي ويلاحظ قلة التقيد في هذا الشرط رغم أهميته في حيادية القاضي حتى يستطيع أن يكون عادلا ومنصفا في أحكامه.
4- باختصار فان القضاة عامة هم العمود الفقري في القضاء الشرعي وهم العنصر الأساسي الذين تتعلق بهم الآمال لتحقيق العدل وأهداف القضاء تطبيق الشرع ولابد أن يكون قضاة الشرع في فلسطين يتمتعون بالاستقلال في اصدار أحكامهم .
5- توحيد جهاز القضاء الشرعي بين جناحي الوطن كما كان قبل اغلاق وتغيير اقفال ابواب مكاتب القضاة في 21/2/2008 وهو تاريخ انقسام جهاز القضاء الشرعي وان يعود كل قاضي مكانه كما كان قبل هذا التاريخ .علما بأن الايرادات كانت تورد للمالية في غزة وبموافقه من قاضي القضاة في الضفة حينها حتى يبقى جهاز القضاء بعيدا عن الانقسام.
6- تشكيل لجنة من كبار القضاة في غزة والضفة مهمتها دراسة حالة كل قاضي في غزة وتسكينة طبقا لمعطيات تعيينه وخبرته وقراراته والحاجة اليه في المحكمة الأعلى درجة .فان كان موجود مثلا حاليا بالمحكمة العليا وهو يستحقها والمحكمة بحاجة اليه يبقى فيها .والا يعود مكانه وياتي من يستحق عنه .
7- دراسة احتياجات المحاكم الشرعية من القضاة في كل محكمة وتسكين القاضي الموجود فيها والذي تم تعيينه طبقا للاصول واصدار مرسوم رئاسي لتثبيته. وانا على يقين ان كل من تم تعيينهم ستستوعبهم المحاكم الشرعية لانها بحاجة اليهم بعد أن خرج كثير من القضاة على المعاش.
8- اعادة جميع الموظفين الى اماكنهم ودراسة استيعاب الذين تم تعيينهم على قاعدة لاضرر ولاضرار .سواء للسابقين او اللاحقين.
9- قاضي القضاة المعين بمرسوم رئاسي ورئيس مجلس القضاء ايضا هم المسؤولين عن جهاز القضاء في الضفة وغزة طبقا للقانون ولمهام كل واحد منهما .والمحكمة العليا هي محكمة واحدة في فلسطين لها هيئتنان واحدة في الضفة وهيئة في غزة . اعادة جميع الرواتب التي تم قطعها سابقا نتيجة الانقسام واعادة المفصولين بمرسوم رئاسي حسب ما تراه اللجنة ودراسة وضع المستحقات المالية حسب الاصول.
10 - اعادة تشكيل مجلس القضاء الشرعي على اسس وحدوية وبالصفة وليس الاسم بين الضفة وغزة كما كان قبل الانقسام.
11 - بعد اعادة الرواتب وتسكين القضاة والموظفين وتسلم الجميع رواتبه حسب قرارات اللجنة المشكلة .يتم توريد ايرادات المحاكم لوزارة المالية حسب الاصول.

واخيرا أسأل الله أن يوحد شعبنا في كل مؤسساته وما احوجنا اليوم الى ذلك .
ربنا لاتؤاخذنا ان نسينا او أخطأنا
ربما ولاتحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا
ربنا ولاتحملنا ما لاطاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.......

القاضي د.ماهر خضير
عضو المحكمة العليا الشرعية