الحركة الصهيونية ، انطلاقاً من مؤتمرها الأول في بال بسويسرا العام 1897 ، وظفت هذه الحركة كل إمكانياتها من أجل هدف إستراتيجي هو الإستيلاء على فلسطين وطرد سكانها الأصليين . والعمل على توطينهم في أماكن شتاتهم الجديدة . ولأجل هذا الهدف نشطت الحركة الصهيونية بين عامي 1918 " أي بعد عام على وعد بلفور المشؤوم " ولغاية العام 1944 في إرسال البعثات لاستطلاع الجوار الفلسطيني في خطوة مهدت لها الحركة الصهيونية لطرد الفلسطينيين وتوطينهم في العراق والجزيرة السورية . وقد عبر الصهيوني " يوسف فايتس " عام 1937 بالقول " إن الهدف في تطبيق اقتراح لجنة بيل هو إنقاص عدد العرب وتفريغ الأرض المملوكة والمزروعة من قبلهم ، وتحريرها من أجل إسكان اليهود مكانهم " . ففي العام 1948 تمكنت العصابات الصهيونية وبمساعدة كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وتواطؤ العديد من الأنظمة العربية آنذاك ، من طرد الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أرضه إلى دول الجوار الفلسطيني . سارعت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تأسيس منظمة الأونروا في التاسع من كانون الأول من العام 1949 تحت القرار رقم 302 بهدف تقديم الإغاثة العاجلة للاجئين الفلسطينيين . واللافت حينها أن قرار التأسيس استتبع :-
1. بقرار لاحق وحمل الرقم 393 ، طُلب من الانروا بموجبه أن تعمل على دمج اللاجئين في اقتصاديات المنطقة ، وهذا يعني خطوة على طريق دمجهم وتوطينهم في الأماكن التي لجئوا إليها بعد ألحقت فيها مهمة التشغيل . مما يعني دفع الفلسطينيين الذين لا يرغبون في العودة إلى وطنهم أن يتم توطينهم حيث تواجدوا .
2. تحديد مدة عملها بثلاثة سنوات ، يجري التجديد لها .
3. إستثناء وكالة الانروا الوحيدة من جميع منظمات الأمم المتحدة في اعتمادها على الدول المانحة ، بحيث لا تعتمد في تمويلها على الأمم المتحدة من خلال موازنات ثابتة ، وبذلك تبقى مرتهنة لهذه الدول التي تعمل وفق إيقاع الرؤى " الإسرائيلية " على حساب قضيتنا وعناوينها الوطنية .
والمتتبع لسياق عمل الانروا ومنذ إنشائها كيف أن الخط البياني لتقديماتها آخذ في التراجع حسب التطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية والعملية السياسية من أجل إنهاء ما بات يسمونه ب" النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي " ، وتحديداً منذ التوقيع على اتفاق أوسلو العام 1993 ، الذي مثل التوقيت المناسب ل" إسرائيل " من أجل إنهاء عمل الانروا ، ولكن الدول المانحة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية استهملت هذا الأمر إلى ما بعد الإنتهاء من مفاوضات الحل النهائي بين منظمة التحرير والسلطة من جانب و" الإسرائيليين " من جانب آخر ، تحت ذريعة أن هذه المفاوضات أحد أهم عناوينها ملف اللاجئين بالإضافة إلى القدس ... الخ . هذه المفاوضات التي اتفق على الشروع بها بعد انقضاء مرحلة الحل الانتقالي في العام 1998 أي بعد خمس سنوات من التوقيع على اتفاق " أوسلو " .
وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية " الأقصى " ، أصبح من المتعذر على الدول المانحة أن تمرر قرار وقف عمل الانروا ، ولكنهم فعّلوا من الخطوات الآيلة في الوصول إلى هذا المبتغى نتيجة الضغوط التي تمارسها " إسرائيل " عبر لوبياتها المنتشرة في العديد من الدول المؤثرة ، خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية ، التي امتنعت ومنذ التوقيع على اتفاق " أوسلو " من التجديد للقرار الأممي 194 الخاص بعودة اللاجئين ، والذريعة أنها لا تريد أن تتدخل في مفاوضات الحل النهائي بين الفلسطينيين و" الإسرائيليين " بما يخص ملف اللاجئين . وهي اليوم أي الإدارة الأمريكية بصدد الشروع بإعادة التعريف باللاجئ الفلسطيني ، أي أن اللاجئين هم من هجروا العام 1948 ، بمعنى أن ذلك لا يشمل الأبناء والأحفاد وأبناء الأحفاد .
وما نشاهده ونعايشه من خطوات وإجراءات وقرارات تصدر عن إدارة الانروا ، ما هو إلا تفعيل للتوجهات السياسية للدول المانحة نحو إنهاء عمل وكالة الانروا . وهذا ما عبر عنه بشكل واضح الأمين العام للأمم المتحدة في حزيران من العام الماضي في يونيو 2015 في قوله :- " أنه لم يكن من المتوقع أن تعيش الأونروا لمدة 65 سنة ، لأن تفويضها عند تأسيسها كان لمدة ثلاث سنوات فقط " . من هذه الخلفية نجد كيف تتم عمليات التسريع في الانخفاض الحاد لحجم التقديمات وعلى مختلف عناوينها في الإغاثة والطبابة والتعليم وسياسة دمج الصفوف وحتى المدارس .. الخ ، والتراجع عن التوظيف بصفة الدائم لصالح العقود المؤقتة ، ووقف العمل ببرنامج الإغائة الخاص بمخيم نهر البارد . لتُستكمل الخطوات اليوم في قرارات المدير العام للانروا في لبنان ، السيد " ماتيوس شمالي " حول الاستشفاء والطبابة ، على الرغم أن الموازنة المخصصة لذلك لم يطرأ عليها أي تغيير أو تخفيض " 10 ملايين دولار " ، وهي في الأصل لا تكفي لسببين ، الأول الكلفة العالية للاستشفاء في لبنان ، والثاني تزايد أعداد اللاجئين المقيمين ، مضافاً إليهم اللاجئين القادمين من سورية . والذريعة ذاتها هي تراجع الدول المانحة عن التزاماتها في تقديم الأموال اللازمة لتغطية برامج الانروا .
الجميع بات على قناعة أن السبب الإستراتيجي الذي يقف خلف ذلك ، هي الضغوط التي تُمارس من قبل أعضاء في الكونغرس الأمريكي ومؤسسات وشخصيات أمريكية و" إسرائيلية " مثل الصهيوني المتشدد " آرييه ألداد " بهدف إنهاء تدريجي لعمل الانروا على طريق تصفية عملها ، كشاهد حي على نكبة الشعب الفلسطيني ، في خطوة لنقل المسؤولية للمفوضية العليا السامية لشؤون اللاجئين ، التي تعنى بلاجئي الدول المنكوبة بفعل النزاعات والحروب وحتى الكوارث الطبيعية . وما يؤكد ذلك تواطأ الموظفين الكبار في الانروا مع هذا المسعى وما كان قد صرح به " أندرو ويتلي " مدير مكتب وكالة الأونروا في نيويورك حول حق العودة حين قال " إن على اللاجئين الفلسطينيين أن لا يعيشوا على وهم تحقيق حق العودة ، وبأنه يجب على الدول العربية أن تبحث عن مكان لهم في أراضيها لتوطينهم فيها " يأتي في هذا السياق . الأمر الذي رئاسة الانروا المسارعة يومها إلى التنصل من تصريحات " أندور ويتلي " .
إن السياسة التي تعتمدها إدارة الانروا تتساوق تماماً مع التوجهات السياسية للدول التي تهيمن على الأمم المتحدة ومؤسساتها وفي مقدمتهم أمريكا التي توظف في السياسة من أجل تصفية حق عودة الفلسطينيين إلى وطنهم عبر إنهاء عمل منظمة الانروا الشاهد الحي على نكبتهم . ولا يجوز في هذا السياق استمرار الدولة اللبنانية بوصفها الدولة المضيفة للاجئين الفلسطينيين على أراضيها على صمتها وعدم تحركها في كل الاتجاهات ، عبر الآمم المتحدة ، والدول المانحة ، لأن المسؤولية في التحرك ليست فلسطينية فقط ، وعليه لابد من تنسيق المواقف بين الدول المضيفة لبنان وسورية والأردن من خلال إعداد مشروع تتقدم به إلى المجموعة العربية من أجل تبنيه ليتحول إلى مشروع قرار عربي أمام الأمم المتحدة ، على أن تكون النقطة المحورية في هذا المشروع ، أن يصدر عن الهيئة الأممية قرار يتم فيه تثبيت موازنة الانروا عملاً ببقية وكالاتها التابعة لها ، من أجل تحريرها من إبقائها رهينة تبرعات المانحين .
رامز مصطفى