العالم العربي منغمس في مشاكله الداخلية من رأسه حتى أخمص قدميه، حتى تلك الدول التي لم تصل إليها موجة الخريف، التي اجتاحت المنطقة منذ سنوات وجلبت معها تغيرات سياسية ومناخية، لم تخف تلك الدول انزعاجها بل فزعها من أن تمتد إليها رياح التغيير بين عشية وضحاها، والكل بات يتوجس من الآخر سيما في ظل التغيرات المتسارعة في التحالفات الاقليمية، والأنظمة العربية تدرك أن الشعوب التي انتفضت على قيادتها لم يحركها في ذلك الأخطار المحدقة بالمنطقة، ولم تتحرك تحت شعارات قومية تتجاوز من خلالها أزماتها الداخلية إلى أفق التهديدات الحقيقية لأمن ومستقبل المواطن العربي، بل جاءت من رحم مشاكله الحياتية حتى وإن حملت في جانب منها مفردات الحرية والعدالة، وبالتالي هوس الأنظمة العربية من رياح التغيير يزداد مع انهيار أسعار النفط، ولا يمكن لعاقل أن يجد مبرراً لهذا الانهيار سوى أنه يأتي من باب خلط المزيد من الأوراق في المنطقة، من الطبيعي أن تكرس الدول العربية جل إهتمامها بقضاياها الداخلية، وأن تتحول سياستها الخارجية لنوع من الترف السياسي بإستثناء ما يتعلق منها بتحصين جبهتها الداخلية.
لا شك أن أمريكا التي ابتدعت فكرة الفوضى الخلاقة في المنطقة، والتي بدأتها بحربها على العراق ولم تخرج منه إلا بعد أن تاكدت بأن نيران الطائفية المشتعلة فيه لن تبقي على الأخضر واليابس، وسخرت بعدها قدراتها التقنية والمالية لدعم لعبة حجارة الدومينو في المنطقة، لا شك أنها نجحت في أن تقنع العالم بالتطرف الإسلامي الذي يهدد الأمن والسلم الدوليين، مستغلة في ذلك أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، رغم أن الحدث ذاته يحمل الكثير من التساؤلات التي تضع أمريكا في قفص الاتهام، وهو ما كشفته لاحقاً جملة من الوقائع والتقارير، لكن أمريكا استطاعت أن تخلق من رحم الحادثة عدواً وهمياً أسمه "الارهاب"، وأشرفت على رعاية الفكرة حتى نضجت فيما بات يعرف بتنظيم الدولة.
لا شك أن أمريكا ما زالت تمسك بالعديد من خيوط اللعبة، وتنصب مهمتها بالمقام الأول على صب الزيت على النار المشتعله في المنطقة، والواضح أنها المستفيد الأوحد منها، حيث أن حالة الإقتتال المستعرة نيرانها في المنطقة توفر الأرضية الملائمة لإعادة رسم خارطة المنطقة من جديد طبقاً لدراسات تم اعدادها منذ سنوات، خارطة تحدد الطائفية حدود دولها الجغرافية، وهي بذلك تباعد بين الدول العربية وتقتلع فكرة الوحدة بينها من جذورها، وبطبيعة الحال لن تجد أفضل من وتر الخلاف السني الشيعي كي تعزف عليه لحن الحرب القادمة في المنطقة، من جانب آخر حركت النيران المشتعلة في المنطقة عجلة مصانع السلاح التقليدية الأمريكية على نحو غير مسبوق، وفي ذات الوقت لم تدفع امريكا شيئاً من كلفة الفوضى التي خلقتها في المنطقة، فلم يصل "الإرهاب" إلى فناء منزلها كما حدث في الدول الأوروبية، ولم تضطر لفتح ابوابها أمام الهجرة التي تدفقت على الدول الأوروبية.
لا شك أن اسرائيل هي الرابح الأكبر من حالة "مولد وصاحبه غايب" التي وصلت إليها المنطقة العربية، ولا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا أن القضية الفلسطينية هي الخاسر الأكبر منها، سيما وأن الانقسام الفلسطيني لم يعد بمنأى عن حالة الاستقطاب في المنطقة التي تحولت فيه القضية الفلسطينية على هامش أدبياته، لذلك علينا الاسراع في ترتيب البيت الفلسطيني وطي صفحة الانقسام، كي لا تكون فلسطين جزءاً من مسرح "مولد وصاحبه غايب" الذي يجتاح بعروضه المنطقة.
بقلم/ د. أسامه الفرا