أخطاء الفلسطينيين… هندسية!

بقلم: عماد شقور

بداية، يجدر بي الإعتراف: لستُ مهندساً. لكن، لا حاجة لأن يكون المرء مهندسا ليعرف بديهية التناقض، (وليس الاختلاف فقط)، بين نقطتي البداية في كلٍّ من عملية البناء وعملية الترميم. ذلك ان البدءَ بتشييد واقامة اي بناء كان، مادياً وبالمعنى الحرفي، او معنوياً وبالمجاز، كاقامة مشروع اقتصادي: زراعةً او صناعةً او تجارة، او مشروع سياسي: انقلاباً او ثورةً او تأسيس حزب، يستدعي بداهة وبالضرورة، البدء من تحت الى فوق.
اما في حالة الترميم، فإن العكس هو الصحيح. يبدأ الترميم من فوق الى تحت. من الدور الأعلى الى الذي دونه، وصولا حتى الدور الارضي. وإلا كان العمل عبثيا ومضرّاً ، حيث تسقط نفايات الدور الأعلى لتلطّخ الدور الأدنى، وذلك بفعل قانون الجاذبية الطبيعي، الذي لا سلطة لبشر عليه، حتى لو كان هذا "البشر" امبراطوراً او ملكاً او رئيساً.
تعرف كل وجوه الطبقة السياسية الفلسطينية، منذ بدء تشكّل الوطنية الفلسطينية المعاصرة، الفرق بين نقطتي البدء في البناء والبدء في الترميم والإصلاح، وتعرف قانون الجاذبية الطبيعي، لكنها لا تعترف بهذه الحقائق، وتكابر في انكارها، "مدجّجةً" بتأييد وتصفيق المحيطين، من عبيدٍ ومنتفعين ودجالين ومنافقين وإمّعات، وتُمعِن في غِيّها، فلا تخسر وجوه تلك الطَّبقة شيئاً، وتحطّ كل الخسارة في حضن الحزب او الجبهة او المنظمة او حتى في حضن الوطن بكامله. كل ذلك كي يبقى الاخ، او الرفيق القائد، او صاحب السعادة، او سيادة الرئيس، في طابقه العلوي لا يرى، ولا يكترث بنفاياته التي تلطخ وتسمم ارض واجواء الطوابق الادنى.
الواجب الاول، بل الفوري، على رئيس أي تشكيل سياسي يفشل في تحقيق الهدف الرئيسي لحزبه او سلطته، في أي مواجهة كانت، كالانتخابات مثلا،ان يتنحى ويفسح المجال لغيره، من حزبه او تنظيمه، ليتولى مسؤولية القيادة والتوجيه، على امل تحقيق اهداف الحزب او التنظيم او الدولة؛ كل حسب مسؤوليته ودوره وموقعه. هكذا هي طبيعة الامور والحياة، في أي مجتمع ديمقراطي حُرّ يحترم نفسه.
كثيرون في التاريخ الفلسطيني الحديث، عرفوا كيف يبدأون. لكن قليلين جداً جداً من هؤلاء عرفوا كيف ينتهون.
"المجلس الاسلامي الأعلى"، في صُوَره ونُسخِه المتعددة، مَثلٌ على ذلك. هذا "المجلس" الذي تشكّل سنة 1922، برئاسة الحاج امين الحسيني، فشل على مدى اربعة عشر عاما في تحقيق اهدافه الاساسية، ولكن بدل ان يغير قياداته واساليبه التي تأكد فشلها، غير اسمه عام 1936، من "المجلس الاسلامي الأعلى" الى "اللجنة العربية العليا"، وبرئاسة الحسيني نفسه.
فشلت "اللجنة" في تحقيق أي من اهدافها، فما كان منها إلا ان اجرت "تعديلا جذريا" (!!) في العام 1946، تمثَّل في تغيير اسمها، لتصبح "الهيئة العربية العليا"، برئاسة (طبعا !) الحاج امين الحسيني!.
من المجلس.. الى اللجنة.. الى الهيئة. فشلٌ، لحقه فشلٌ، لحقه فشل. وكانت النتيجة: نكبة فلسطين في العام 1948، حيث ضاعت فلسطين كلها، وليس ما اقتطعه قرار التقسيم منها فقط، وشُرّد شعبها.
رغم ذلك كله لم تبادر "الهيئة" الى توريث ابنها الشرعي، "حكومة عموم فلسطين"، بزعامة أحمد حلمي باشا عبد الباقي، ولا هي استجابت لطلبه بالتنحي وافساح المجال لتولي القيادة وتحريك الدّفة، بما يتلاءم ورياح تلك الايام واتجاهاتها، ومستجدّات ذلك الزمان وقوانينه وتعقيداته. اكثر من ذلك: راحت "الهيئة" تنصُب الفِخاخ وتضع العراقيل على درب حكومة عموم فلسطين، فكان اول مطلب للحسيني هو ان يُنصِّبه الإطار الوطني الفلسطيني الجامع، الذي عُقد في غزة، والذي شكل "حكومة عموم فلسطين"، رئيساً لـ "دولة" فلسطين، ليظل هو صاحب القرار، فوق وقبل الحكومة الوليدة الغضّة. وراح التنافس العبثي بين "الهيئة" و"الحكومة" يقضم كليهما: الهاشميون في الاردن والعراق وحلفاؤهم يدعمون "الحكومة" نكاية بخصمهم الحسيني، ومصر ومن معها يسايرون "الهيئة" نكاية بخصومهم الهاشميين. وتبدّدت كل امكانية لأن يستعيد الفلسطينيون وطنهم وحقوقهم، او ليسترجعوا بعضاً منها على الأقل.
اعود هنا للتحدث بكلمات على الصعيد الشخصي، على غرار ما افتتحت به هذا المقال: توفي شقيقي الحبيب سليمان سنة 1990 في لندن. فوردتني برقية تعزية من "ممثل الهيئة العربية العليا في نيويورك"!!! نعم، فوجئت مثل كل قارئي هذه الكلمات ان هذه "الهيئة"ظلّت قائمة وموجودة حتى ذلك التاريخ، وربما لغاية اليوم ايضا.
هي جثّة هامدة لم يسعفها الحظ في الحياة، وما اسعفها الحظ حتى لتحظى بجنازة مهيبة ودفن كريم. يقول الناس، وهم صادقون: "إكرام الميت دفنه".
لكن، وحتى لا يعتقدنّ احد ان الأُمور وصلت الى هذا الدّرك، عند المجلس/اللجنة /الهيئة فقط، أُضيف: في صيف العام 1969 تحدد لقاء تنظيمي ما لحركة فتح في دمشق. كان من بين حضوره المرحوم جمال عرفات (أبو رؤوف)، وهو الاخ الاكبر، (غير الشقيق)، للقائد الخالد ياسر عرفات (أبو عمار). قال لي أبو رؤوف انه غادر لبنان عبر نقطة الحدود في المصنع، ودخل سوريا عبر نقطة الحدود في جديّدة يابوس بجواز سفره الفلسطيني. وإذ استغربت، اخرج من جيبه جواز سفر صادر عن "حكومة عموم فلسطين" باسمه وصورته، واختام لبنان وسوريا على صفحاته. سألته عمّن اصدر ووقّع الجواز، فقال: انا، وذلك بصفتي سكرتير رئيس حكومة عموم فلسطين، احمد حلمي باشا. واضاف: هل تعلم أن مكتبي الذي كنتَ تتردد عليه مع واثناء إطلاق اذاعة "صوت فتح، صوت الثورة الفلسطينية" في القاهرة، باعتباره مكتب حركة فتح ، هو اساسا مكتب "حكومة عموم فلسطين"، الذي تسدد جامعة الدول العربية أُجرته؟!.
عرِفَت "الهيئة العربية العليا" كيف تبتدئ. لكنها لم تعرف كيف تُورِّث وتنتهي، لتضمن لنفسها مكاناً محترماً في التاريخ الفلسطيني.
عرِفَت "حكومة عموم فلسطين" كيف تبتدئ. لكنها لم تعرف كيف تُورِّث وتنتهي، لتضمن لنفسها مكاناً محترماً في التاريخ الفلسطيني.
عرِفَت "حركة التحرير الوطني الفلسطيني ـ فتح" كيف تبتدئ. لكنها لم تعرف،(حتى الآن على الأقل)، كيف تُورِّث وتنتهي، لتضمن لنفسها مكاناً محترماً في التاريخ الفلسطيني.
حتى في ايامنا هذه التي نعيشها، وفتح تتجاوز أبناءَها وبَناتها وبُناتها، وتحرمهم حقهم في الوراثة، بل وتنكِّل بهم، تسمع حيثُما ولّيتَ وجهك، إنتقاداتٍ واستهجاناً لتوريث واحد من "أحفاد" جيل المؤسسين، مثل الشاب الواعد احمد عسّاف موقعاً متواضعاً. واقول متواضعا لأنه ليس موقع "رسم" وتحديد وإقرار السياسة الفلسطينية، وانما هو موقع "التعبير" عن السياسة الفلسطينية.
آن لكل طاقم قيادة حركة فتح ان يُسلّم الرّاية. آن لحركة فتح ذاتها ان تُخلي موقعها، بل وان تبادر وتشجِّع على إنشاء "حزب وطني فلسطيني" تتولى تأسيسه نخبة من المناضلين الأكفاء، من فتح ومن غير فتح، ليكون هو وريثها الشرعي الوحيد، يستند الى تاريخها النضالي المشرّف، ويعمل بقوة شباب فلسطين وعقلهم وفهمهم لقوانين العصر واسلحته واساليبه.
إن استنكفت فتح عن ذلك، او تردّدت، فسيكون وريثها هو خصمها في احسن الحالات، وسيكون عدوها هو وريثها في اسوأ الحالات.
أخطاء القيادات الفلسطينية هندسية. تتقن التأسيس والبناء، لكنها لا تتقن الترميم والاصلاح. تتقن البداية من الصفر، وتنتهي الى ما هو دون الصفر.
حين تَحلُّ الأداة مكان الهدف، يضيع الهدف وتتحطم الأداة.

٭ كاتب فلسطيني

عماد شقور