منذ انطلاقتها في يناير 1965 كحركة تحرر وطني، احتضنت الجماهير الفلسطينية والعربية حركة فتح والتفت حولها بحيث أصبحت بعد ثلاث سنوات فقط من انطلاقتها عنوانا للوطنية الفلسطينية ولكل الشعب الفلسطيني، واعترفت لها بهذا الموقع كل الأحزاب الفلسطينية بكل توجهاتها الفكرية والأيديولوجية وقَبِلت مختارة أن تسلمها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1969 . ولم يقتصر الأمر على الوضع الفلسطيني الداخلي بل أصبحت حركة فتح عنوانا للوطنية الفلسطينية ورائدة لحركات التحرر العالمي، وتماهى اسم فلسطين مع اسم فتح .
لأن القيادة مسؤولية وتضحية فلم تكن مسيرة حركة فتح مكللة بالورود بل واجهتها تحديات جسام، فمنذ نشأتها خاضت حركة فتح حروبا ومواجهات عسكرية مع إسرائيل داخل فلسطين المحتلة وعبر جبهات ثلاث معها – الأردن ولبنان وسوريا- ودخلت في حروب استخباراتية مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عبر العالم وفقدت خلال هذه الحروب قادة عظام، من قادة شارع فردان في لبنان ،أبو يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان إلى أبو جهاد وأبو إياد وأبو الهول، مرورا بماجد أبو شرار وأبو حسن سلامه وعاطف بسيسو ومحمود الهمشري ووائل زعيتر وعشرات غيرهم .
لم تقتصر الحروب والمواجهات التي خاضتها حركة فتح على العدو الإسرائيلي بل اضطرت لخوض حروب ومواجهات مع أكثر من نظام عربي وفي أكثر من ساحة، كأحداث أيلول في الأردن 1970 وتعقيدات الحرب الأهلية اللبنانية حيث دخلت الثورة الفلسطينية متحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية في مواجهات مع حزب الكتائب المسيحي ومع حركة أمل الشيعية ومع الجيش السوري ثم مع إسرائيل عام 1982 ، كما توترت العلاقة بين حركة فتح وأكثر من نظام وحزب عربي ، بالإضافة إلى أكثر من محاولة انشقاق داخلي، وأيضا سقط شهداء من فتح بسبب هذه الخلافات ومنهم أبو علي إياد وسعد صايل .
كل الحروب والمواجهات المتعددة لم تكسر من شوكة حركة فتح ولم تقلل من حضورها وشعبيتها ولم يفقد أبناؤها إيمانهم بعدالة القضية الوطنية التي يدافعون عنها, وكانت فتح دوما تخرج من كل مواجهة وحرب وهي أكثر تصميما على الاستمرار بالمعركة والتمسك بالثوابت، بالرغم مما كان يصيبها من ضرر وخسائر كما جرى بعد الخروج من لبنان 1982 أو بعد الانشقاق 1983 أو بعد تورطها بعملية التسوية السياسية من خلال اتفاق أوسلو.
صحيح أن تنظيم فتح بعد قيام السلطة أصبح ضعيفا وأن القيادات التي تسلمت أمور تنظيم فتح لم تعد كما كانت، وصحيح أن مال السلطة واستحقاق التنسيق الأمني مع إسرائيل ووجود حركة فتح على رأس الفريق الذي قاد مفاوضات مع إسرائيل لم تنجز شيئا على الأرض الخ، كل ذلك أثر سلبا على قوة وسمعة تنظيم فتح .
إلا أن كثيرين يخطئون إن اعتقدوا أن حركة فتح هي السلطة أو هي تنظيم فتح أو هي هذا القيادي أو ذاك ممن تسلقوا بدعم خارجي لمواقع القرار داخل التنظيم، وأنه ما دامت السلطة أصبحت ضعيفة والشعب مستاء من أدائها، وتنظيم فتح غارق في السلطة وامتيازاتها وقياداته التاريخية تختفي إما بالوفاة أو الاستنكاف وخصوصا بعد اغتيال أبو عمار، فيمكنهم إطلاق (رصاصة الرحمة) على حركة فتح والحلول محلها، وهذا كان خطأ حماس بما أقدمت عليه يوم 14 يونيو 2007 .
سر حركة فتح، الذي تجهله أو تجاهلته حركة حماس وغيرها، أن حركة فتح فهمت منذ البداية الحلقة المركزية للصراع مع العدو، وهي الوطنية الفلسطينية كثقافة وهوية وانتماء. أدركت حركة فتح أن الحركة الصهيونية التي تزعم عدم وجود شعب يسمى الشعب الفلسطيني وأن فلسطين هي ارض إسرائيل التاريخية ،هذه الحركة الصهيونية بمنطلقاتها الفكرية النافية للوطنية الفلسطينية وبممارستها الاستعمارية الإجلائية لا يمكن الرد عليها ومواجهتها إلا بالتأكيد على الهوية الوطنية والوجود الوطني الفلسطيني، وأن لا أيديولوجية أخرى يمكنها مواجهة الأيديولوجية الصهيونية، فلا أيديولوجية اليسار ألأممي وتركيزه على الصراع الطبقي يمكنها مواجهة الأيديولوجية الصهيونية، ولا الإيديولوجية الإسلامية الأممية يمكنها مواجهة الإيديولوجية الصهيونية .
على هذا الأساس فإن حركة فتح ليست التنظيم والقيادة فقط، بل هي الفكرة الوطنية الجامعة المتصادمة والمشتبكة مع إسرائيل، وهذه الفكرة يؤمن بها ويتبناها أبناء فتح أينما كانت موقعهم وكيفما كانت ظروفهم وبغض النظر عن وجودهم داخل التنظيم أو خارجه، وبغض النظر عن القيادة وأشخاصها، ورضاهم أو عدم رضاهم عنها ، كما أن الفكرة الوطنية فكرة جامعة تستوعب كل الأيديولوجيات الأخرى التي تؤمن بالوطنية كفكرة وكممارسة نضالية.
صحيح أن قوة التنظيم والقيادة أمران مهمان لأي حزب أو حركة، وصحيح يوجد أزمة تنظيم وأزمة قيادة في تنظيم فتح، إلا أن قوة الفكرة تعوض ذلك،نسبيا، وقوة الفكرة وصحتها واستمرار جمهور فتح في حالة اشتباك مع إسرائيل ورفض لممارساتها هو ما حافظ على استمرارية حركة فتح وهو ما يزعج إسرائيل ويجعلها دائمة التخوف من حركة فتح أكثر من أي حزب آخر ، وخصوصا أن لا حزب أو حركة أستطاع أن يملأ الفراغ الوطني الذي نتج عن أزمة تنظيم فتح .
الفكرة الوطنية كامنة كالجمر تحت الرماد ليس فقط عند أبناء فتح بل عند كل أبناء الشعب الفلسطيني حتى المنتمين منهم للأحزاب الأخرى، فالوطنية هي الأساس والإيديولوجيات الأخرى مجرد قشرة خارجية سرعان ما ستزول عندما يخفت هيجان وهوس الأيديولوجيات. انتظر الشعب وأبناء فتح وانحنوا لعاصفة الانقسام وموجة المد الأصولي وهيجان ما كان يُعتقد أنه ربيعا عربيا، معولين على أن حركة حماس قد تصحح المسار الوطني وتُجدِد الوطنية الفلسطينية، وفي الوطنية الفلسطينية متسع للجميع ، وحركة فتح تؤمن بالتعددية، إلا أن حركة حماس وإن حققت شرط الاشتباك مع الاحتلال إلا أنها تنكبت للوطنية لصالح أيديولوجيا عابرة للحدود، وهو ما يضعف من قوة حضورها وطنيا .
بقدر صلابة ووحدة الفكرة الوطنية الجامعة التي لا تقبل القسمة وإن كانت تقبل التعددية الفكرية،فإن حركة فتح حالة مرنة وتعرف تعددية فكرية ولكن داخل الإطار الوطني حيث يحكمها مبدأ (الاختلاف داخل الوحدة)، وأحيانا تحتدم الخلافات الداخلية وتتعدد الاجتهادات وتبرز تجنحات، كل شيء وارد وممكن وموجود، ولكن الخط الأحمر الذي لا يمكن السماح به بالإضافة إلى التخلي عن الحق بمقاومة الاحتلال والتنازل عن الحقوق الوطنية، فهو اللجوء للسلاح لحل الخلافات الداخلية، عندما يحمل أبن فتح السلاح في مواجهة إخوته فإنه يدنس الوطنية الفلسطينية، وبالتالي يخرج منها ويعيش على الهامش كما جرى مع المنشقين عام 1983 حتى وإن كانت نواياهم في البداية طيبة .
لا يعني هذا أن حال تنظيم فتح راهنا في مستوى الفكرة الوطنية أو في وضع صحيح، فقد خسر التنظيم كثيرا خلال السنوات القليلة الماضية وستزداد خسارته إن لم يتم تدارك الأمر بسرعة. أيضا الوطنية الفلسطينية ليست حكرا على تنظيم حركة فتح إلا بمقدار التزام التنظيم بثوابت الفكرة الوطنية واستمراره بالنضال الوطني لتحقيقها.
الفكرة الوطنية ملكية مشتركة لكل من يؤمن بها من أفراد الشعب داخل الوطن وخارجه، والوطنية التي تمثلها حركة فتح: هوية وثقافة وانتماء وممارسة نضالية ميدانية، منفصلة عن السلطة واستحقاقاتها والمفاوضات وتعثراتها، بل ومنفصلة عن الأشخاص الذين على رأس تنظيم فتح، كل هؤلاء يكونوا جزءا من الوطنية الفلسطينية أو قريبين منها بمقدار التزامهم بها فكرا وسلوكا وتحررا من أية انتماءات أو أيديولوجيات خارجية .
بقلم/ د. إبراهيم أبراش