عن المأزق والمخارج: مثلاً 18/18الخدمة المدنية الالزامية المتبادلة

بقلم: عماد شقور

يمُرّ الوضع الفلسطيني بمجمله هذه الايام، في واحد من المآزق الكبرى، التي قلّما مر بمثيل لها منذ انطلاق الثورة الفلسطينية الحديثة. هذه الحقيقة تجعل ايامنا الراهنة اشبه ما تكون بتلك التي سبقت انطلاق الثورة مطلع العام 1965، بعد ان كان القرار العربي بانشاء منظمة التحرير الفلسطينية، قد شكّل تمهيدا لها في العام السابق.
يتفق غالبية الفلسطينيين على تشخيص حالة العمل الوطني الفلسطيني، بانها مأزق مرير لاسباب قد يكون اهمها:
الترهل وعدم الإنسجام وتعمق الخلافات في م.ت.ف.، وفي إطارها القيادي، اللجنة التنفيذية، على وجه الخصوص.
الوضع غير المريح في الأُطر القيادية في جميع مكوِّنات م.ت.ف. دون استثناء، بدءًا من العمود الفقري للمنظمة، حركة فتح، وانتهاءً باصغر واحد من تلك المكونات، مروراً بالمستقلين.
الوضع الفلسطيني العام في ظلّ، وبسبب الإنقلاب والإنقسام بين الضفة وغزة، وبسبب الاختلافات والخلافات داخل أُطر حركة حماس، وتعدد المرجعيات لتلك الأطر في قيادات جماعة الاخوان المسلمين.
انعكاس كل هذه الإرباكات في الضفة وغزة، وفي جميع مناطق تواجد الفلسطينيين، في مناطق الـ 48 ودول اللجوء.
الوضع العربي وما يعانيه من احتراب بين قوى تقدمية تنشد الحرية ومواكبة العصر، وقوىً ظلامية تعيدنا إلى قرونٍ خلت، وانظمة حكم رجعية غير مستنيرة، وانظمة حكم كاذبة ومزاودة حتى على الفلسطينيين انفسهم. وزاد الطين بلة استعانة بعض المشاركين في هذا الإحتراب بقوى خارجية، سواء كانت دولاً معادية بطبيعة تركيبها وتكونها، او كان ذلك "قيصر" الشرق، او"كسرى" فارس، او "سلطان" العثمانيين. وزاد الطين بلّة اضافية، انخفاض مذهل في اسعار النفط، مع ما يوفره ذلك من حجة لبعض "المانحين العرب" لتخفيض، ان لم يكن وقف، الدعم المالي للفلسطينيين.
الوضع المرتبك على الساحة الدولية، وانشغال العديد من دول العالم ذات التأثير في السياسة الدولية، وفي منطقتنا العربية بالذات، بالاحداث الدموية والإرهابية المشتعلة في الدول المحيطة بفلسطين، وانشغالها بشرارات من هذا الإرهاب، تتفجر في عواصمها ومدنها، اضافة لانشغالها بسيل لا ينتهي من البسطاء اللاجئين الذين ضاقت بهم اوطانهم. على ان ذلك لا يمنعنا، ونحن نمعن النظر في حالنا على الساحة الدولية، من ملاحظة ومتابعة وجود نقطة بيضاء ناصعة، وسط هذا السّواد القاتم، تمثلت في بدء انفضاح عنصرية اسرائيل واستعمارها، وبدء الادانة العلنية لهذه السياسة والتصدي لها: من قصر الرئاسة في البرازيل، الذي رفض قبول اوراق اعتماد السفير الاسرائيلي الجديد، لأنه مستوطن/مستعمر، وحتى موقف الفاتيكان، مرورا بمطالبة السويد اجراء تحقيق دولي ببعض من جرائم اسرائيل، واصرار دول الاتحاد الاوروبي على التمييز بين اسرائيل من جهة، وبين مستعمراتها في الضفة الغربية (والقدس العربية منها)، وفي هضبة الجولان من جهة ثانية. يضاف إلى ما تقدم في هذا السياق، موقف اوباما والبيت الابيض الأمريكي من سياسة التمييز العنصري، ومن تحريض نتنياهو وحكومته اليمينية الفاشية ضد الجماهير الفلسطينية في اسرائيل. الا ان الوضع الفلسطيني، لاسباب عديدة، غير قادر، لسوء حظنا، على جني ثمار وتعظيم هذا التطور على الساحة الدولية.
هذا الوضع الفلسطيني غير مسبوق. فقد حظي العمل الوطني الفلسطيني على الدوام بقاعدة صلبة، هنا او هناك، يقف عليها. وحظي على الدوام برافعة، بل بروافع فلسطينية وعربية، واحيانا دولية، يستند اليها ويستعين بها لمواصلة النضال ومراكمة الانجازات، على طريق التحرر واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. في هذه الايام لا ارض صلبة للفلسطينيين ولا روافع.
هذا الأُفق المسدود، فلسطينياً وعربياً، لا بد من تجاوزه بفعلٍ، (وليس برد فعل) فلسطيني. تجاوزه بمبادرات فلسطينية متتالية، لا تتوقف ولا تنقطع، لا تنتظر مناسبات ولا لقاءات ولا مشاورات.
لا وقت لقيادة العمل الوطني الفلسطيني الحالية. ونكرر مع الامام الشافعي: الوقت كالسيف، ان لم تقطعه قطعك.
ان اطلاق مبادرات فلسطينية جدية، تعطي املا للفلسطينيين، وتضع امامهم اهدافا وطنية سامية، قابلة للتحقيق، وجديرة ببذل الجهد والتضحية من اجل انجازها، دون الْتفات إلى أي عون، هو امر ضروري وفوري.
وحتى لا يظل الكلام عاما، اعطي مثلا على ما احاول توضيحه، باعادة طرح وشرح مبادرة "مشروع الخدمة المدنية الإلزامية المتبادَلة، 18/18". حيث كانت مبررات عقد ندوة في شهر آب/ اوغسطس 2005، بخصوص هذه المبادرة، كما يلي:
تشتّتَ الشعب الفلسطيني بسبب النكبة عام 1948، واقامة دولة اسرائيل. اصبح الفلسطينيون اشبه ما يكونون باربعة شعوب: ثلاثة منها "شبه متماسكة": في مناطق الـ48 والضفة الغربية وقطاع غزة، وشعب (او شعوب) في دول اللجوء، وخاصة دول الطوق، والعراق ايضاً، والخليج لاحقاً.
اعادت اتفاقية اوسلو الأمل بامكانية اعادة الترابط والتوحُّد. الا ان ذلك لم يتحقق، بل العكس من ذلك هو ما نشهده هذه الايام.
مصلحة الفلسطينيين الوطنية العليا، هي السعي لخلق بوتقة صهر تعيد التماسك لهذه "الشعوب الفلسطينية".
لا بوتقة صهر لإنجاز هذا الهدف الوطني، افضل من الجيش والتجنيد الإجباري، كما قال بن غوريون وهو يسعى لاستقدام المهاجرين اليهود من كافة اصقاع ودول العالم، ليصنع منهم شعبا موحدا متماسكا.
لكن اتفاقية اوسلو، وملحقاتها، تحظر على الفلسطينيين، (ربما لحسن حظّنا)، تشكيل جيش، وفرض تجنيد اجباري لـ "خدمة عسكرية".
الا ان اتفاقية اوسلو لا تحظر على الفلسطينيين، لحسن حظّنا ايضاً، وضع قانون ملزِم بفرض تجنيد شامل لـ "خدمة مدنية".
تستدعي المصلحة الفلسطينية البدءُ بتطبيق هذا المشروع في كل بقعة فلسطينية يمكن تطبيقه فيها، سواءً كان ذلك في كل ارجاء مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، او في جزءٍ منها او في مدينة او قرية او مخيم لاجئين، او في حي او حتى في شارع واحد، لإظهار وتأكيد التصميم الفلسطيني على تطبيقه وإحراز المرجو منه. دون التخلي عن امكانية استيعاب أي شاب او شابة فلسطينية من دول الشتات، تسمح له ظروفه، في اطار هذه الخدمة المدنية.
الاهداف الرئيسية لهذا المشروع:
خلق مؤسسة وطنية تكون بوتقة لصهر واعادة تشكيل المجتمع الفلسطيني بتوحيده وخلطه، والمساهمة في بناء واعتماد قيم ولغة ومفاهيم مشتركة.
تعميق الاحساس الوطني بالتعرف على دقائق الوطن جغرافيا وتاريخيا واجتماعيا واقتصاديا، والتعرف على موارده الطبيعية.
استبدال الولاءات للجزء او المحافظة او العشيرة او غيرها، بولاء مطلق للوطن الواحد وللشعب الواحد.
ترسيخ مبدأ العطاء للوطن وللمجتمع، واعتباره قيمة عليا، جديرة بان تحتل مكانتها في الصف الاول في سُلّم القيم التي يحرص عليها المجتمع ويفخر بها الافراد.
يتقدم لامتحانات التوجيهي في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينة سنويا، بحدود مئة الف طالب وطالبة. هذا يعني ان في هذه المناطق نحو مئة الف شاب وشابة يبلغون سن الثامنة عشرة سنويا، وينطبق عليهم قانون مشروع الخدمة المدنية الالزامية لمدة ثمانية عشر شهرا، (ومن هنا جاء 18/18).
هذا الامر يستدعي ان يتم وضع البرامج وتحديد الاهداف لتوزيع وتنويع النشاطات خلال فترة الخدمة المدنية، بالاتفاق والتعاون مع كل الوزارات والهيئات ذات العالقة، التي تشمل العديد من اعمال التشجير والتحريش ومحو الامية والعمل في المستشفيات وملاجئ العجزة ومساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، اضافة لتعليم المهن اليدوية، وتعليم اللغات والعلوم التقنية العالية، وتأهيل المتخرجين للعمل ومنحهم شهادة تضمن لهم الاولوية في سوق العمل، وتضمن لمن يرغب في متابعة تحصيله الاكاديمي احتساب ساعات قد تصل إلى عدد ساعات عام اكاديمي. فهي "خدمة متبادلة" بين الفرد والمجتمع.
ان انسداد الافق السياسي يعني خلق حالة فراغ. ومن المعروف بديهيا ان طبيعة الحياة ترفض الفراغ، واذا لم تبادر الجهة ذات العلاقة لملء ذلك الفراغ، فان قوة اخرى ستملأه، وتحول صاحب العلاقة إلى بند في اجندتها.
وفي حالتنا الفلسطينية الراهنة، فان ملء فترة الفراغ، بما يمكن له ان يشكل منفعة للفلسطينيين، حاضرا ومستقبلا، استعدادا لمراحل مقبلة، مع بدء انفراج الافق السياسي، هو حاجة ضرورية وملحة وفورية.

٭ كاتب فلسطيني

عماد شقور