أفق الانتفاضة الفلسطينية الثالثة

بقلم: أسامة نجاتي سدر

تخيل- يا رعاك الله - شابا يرقص الدبكة وهو في مدى الأسلحة الأتوماتيكية، شاب يجلس كالعريس على المنصة أمام المدافع والرصاص الموجهة إلى قلبه، شاب تدفعه الشهامة كي ينتقم لعرض فتاة من مدينة أخرى لم يرها إلا على وسائل الإعلام لمجرد أنه تخيلها أخته، شاب يخطُّ وصيته قبل أن يرتقي شهيدا بدلا من رسم مستقبل واعد، شاب يفي بوعده لأبٍ بأن يقدم الروح ثأرا لدم ابنه الشهيد، عريس يستبدل بذلة العرس الرائعة بثوبين أبيضين ويتزين بالحناء والكافور بدل العصور الفرنسية، أبٌ يطلب صبية لابنه ويحدد يوم الزفاف في قصر من قصور الجنة، شباب يقررون موعدا لطلعة شبابية في الفردوس الأعلى يسبقهم الأول شهيدا باب العامود ويتبعه ابن عمه في تل ارميده ويلحقهم ابن عمته على مفرق عصيون تلك يا عزيزي بعض من عجائب الانتفاضة الفلسطينية الثالثة.
تنطلق الثورة من قلوب المضطهدين ،ويرسم خطتها المثقفين ، ويقودها عادة المفكرين ، ويوقد جذوتها الشباب بالتضحية بكل غالٍ وثمين، ويزيد اشتعالها الهتافات والأناشيد والكلمات الحماسية، ولابد لأي ثورة من أهداف تسعى لتحقيقها الواحد تلو الآخر حتى تصل إلى قلب الواقع الذي أشعل فتيل الثورة، ولابد للثورة أن تنقب عن ممول يدفع الفاتورة المادية كما تدفع فاتورةٌ من الدماء ودقات القلوب ودموع العيون، وستجد الثورة متضررين ومتخاذلين ومثبطين وبائعين وخونة، وتستمر إذا زرعت في نفوس الناس الإيمان بقدرتها على النصر وتنجح إذا طبعت صورة واضحة لما بعد النصر، وغرست في قلوب الثائرين الثقة بإمكانية الوصول لهذه الصورة.
عاب الناس على قادة حماس الميدانيين أن يرسلوا الشباب إلى الشهادة ويتمتعوا بعدهم بالمجد والشهرة ثم يفخروا بنتائج تضحياتهم، وكأن هؤلاء الاستشهاديين ضحية غسيل دماغ أو مؤامرة لرفع شأن فصيل أو أشخاص على حساب دماءهم، فبنت إسرائيل استراتيجيتها على اغتيال القادة لمنع وصولهم إليها، وبحثت في الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع شابا كي ينصاع لأمر قائده فيضغط على مفتاح ينقله من الدنيا لأول منازل الآخرة مصطحبا معه بعضا من أعداءه، أما أن يخرج شباب من كافة المنابت والطبقات الاجتماعية والثقافية بسلاح أبيض قاصدين جنودا مدججين بالسلاح أو مجموعة محصنة من المستوطنين دون محرض، فأمر دفع المحللين إلى الجنون ولا بأس بذلك لأنهم لا يخطر ببالهم أنهم أمام مجاهدين في سبيل الله لأجل أعظم قضية وأكرم مسجد، أثبتوا أنهم يرضعون مع لبن أمهاتهم البطولة والتضحية وأن انتماءهم لدينهم ووطنهم أشد من أي دافع آخر للتضحية بالروح.
يقف العالم بكامل قوته خلف الكيان الصهيوني ويسعى لتأمين وجوده على حساب وجود الشعب الفلسطيني وتاريخه ويقدم له كل مقومات الحياة والظلم والاستبداد، وبالمقابل يقدم ما يؤمن انكسار الشعب الفلسطيني ورضوخه وتلاشي آماله بالحرية والاستقلال، ولا يعترف بحقوقه إلا في صالونات الثقافة وحقوق الإنسان، وهو يقف مدافعا عن وجوده وحقوقه ويسعى أن تظل قضيته حية في قلوب الشعوب الإسلامية وضمائر الشعوب الحرة في العالم، وأن يدب الرهبة في قلوب جنود الاحتلال والمستوطنين ليحافظ على كرامته ويردعهم عن المساس بحياته اليومية ومقدساته.
من السهل أن تصنع سدا يمنع تدفق نهرٍ عظيم، ولكن المستحيل هو التحكم بسيولٍ متعددة من منابع مختلفة، وحركاتنا الوطنية يمكن أن تشغلها بتفاوض قد يستمر مئة عام وتنازل إثر تنازل في سبيل اعتراف العالم بحقٍّ ثابت في الكتب السماوية والتاريخ، أو بحصر الحمية والجهاد دفاعا عن جزء صغير من الأرض، وشعارات تملأ الدنيا لا تجرح العدو كشوكة ولا تزيحه عن خططه لحظة، ومن المستحيل أن تمنع شابا تربى على نور الله، وتشبعت نفسه إيمانا، وتجسدت آماله بالشهادة في سبيل الله مقبلا غير مدبر، لا يحكم خطاه فكر ولا ميثاق أن يقوم بعمل يلهب صدر الأمة دفاعا عن المقدسات وانتصارا لحق مسلوب وإبقاء لجذوة الصراع إلى أن يأتي الفرج.
عجز المحللون السياسيون والاجتماعيون والاقتصاديون إيجاد سبب لثورة الشعب الفلسطيني الحالية، وكأن الشعب توقف عن الثورة يوما، فالشعب الفلسطيني وجه الثورة الثاني وإن لم يجد الشعب سببا للثورة ثار ضد نفسه وأظهر للعالم تميزه، أما إذا استُهدف المسجد الأقصى بشكل علني وممنهج، وأهينت النساء أمام الشاشات دون سبب، وسدت في وجهه الأفق السياسية والاقتصادية أصبح العدو وربما العالم في خطر.
أسامة نحاتي سدر